الأرض تحترق في غزة

 في غزة

ناحوم برنياع

يفصل سور اسمنتي رمادي عالٍ كسور الفصل بين اسرائيل والضفة، بين كيبوتس كيرم شالوم وحدود قطاع غزة. وقد وقفت أول أمس مجموعة ضباط من الجيش الاسرائيلي على قاعدة تعمل بضغط الماء رفعتهم الى أعلى السور.

كان المنظر ساحرا فقد كانت الشمس الحمراء تغرق ببطء في الغرب بين رفح المصرية وسيناء، وظهرت في خط الأفق بيوت رفح الفلسطينية، تضيئها آخر الاشعة. وانبسط كثيبان ضخمان من الرمل المذهب عند اسفل السور على طول ما كان حتى هذا الاسبوع نفقا صلبا هو أم كل أنفاق حماس.

وانتشرت الآلات الهندسية من الشرق وراء جدران الكيبوتس وقد كانت هناك أبراج حفر تستعمل على نحو عام لاستخراج الماء. ويعمل كل برج من فوق شاحنة تحمله. وكانت هناك آلة حفر ضخمة يبلغ حجمها حجم قاطرة قطار يسميها مستعملوها وبحق «جوليفر». وتعالج هذه الآلات وآلات غيرها النفق منذ زمن. ولم تكن وحدها وقد أمطرت طائرات سلاح الجو النفق بما لا يقل عن 30 قنبلة اختراقية واحدة بعد اخرى بالدور على طول المسار. وانهار النفق لكن العمل فيه لم ينته فما لم تفعله الطائرات فعلته وتفعله الحفارات.

بدأ النفق في الدهنية مما كان بعد اتفاق اوسلو مطار فلسطين. وقد خرج النفق من قطعة الارض تلك التي استعملها خاطفو جلعاد شليط.

طلب قائد منطقة الجنوب سامي ترجمان أن يتحدث الى سكان كيرم شالوم في اثناء العمل. وقال لهم إن النفق حدث قومي وحدث تأسيسي وإن نصف الدولة مشغول به فقط ولم يكن يبالغ، فقد هاتف رئيس الوزراء ذات حاييم يلين، رئيس المجلس الاقليمي اشكول، واشتكى أنه هاجم تأخر رد الحكومة على اطلاق القذائف الصاروخية فقال نتنياهو: «إنك لتعلم أنني مشغول بالنفق».

القذائف والاختطافات والانفاق هي الوسائل الثلاثة التي طورتها حماس لمواجهة دولة اسرائيل. ولرجالها خبرة وتجربة لحفر الأنفاق. وتطور الامر منذ كانت الانفاق في محور فيلادلفيا وهم الآن ينزلون الى عمق عشرين مترا – كارتفاع خمسة طوابق – ويواصلون على هذا العمق الى داخل اسرائيل. والانفاق مبطنة بالاسمنت وآمنة الاستعمال. وهم يقفون قبل المنفذ بثلاثة امتار وحينما يستقر رأيهم على استعمال النفق يكملون الحفر دفعة واحدة. وهم يستطيعون أن يُخرجوا عشرات من مقاتليهم الى داخل اسرائيل لخطف جنود أو مدنيين ولتنفيذ عمليات وللقتل.

كان الجيش الاسرائيلي يبحث منذ سنين منذ كانت انفاق فيلادلفيا على اختراع يقضي على هذا التهديد. وقد سافر ضابطان كبيران ذات مرة الى سجن عسقلان لاستجواب سجين كان من أكبر خبراء حماس بحفر الانفاق؛ وسألاه كيف يمكن القضاء على هذه الظاهرة فقال إن الامر سهل: بالبراز والماء. صبوا كل ماء الصرف الصحي لغزة في محور فيلادلفيا. فيتغلغل ماء الصرف الصحي ويموت الاشخاص في الانفاق من غاز الميثان، أو أغرقوا المنطقة بالماء فيغرق الاشخاص. ورفض الخبراء بالقانون الاقتراح الاول لأن اسرائيل لا تستطيع أن تقتل أناسا بالغاز حتى لو كان البراز مصدر الغاز؛ ولم يُجرب الاقتراح الثاني بجد. وفي خلال ذلك تركت اسرائيل قطاع غزة وفيه محور فيلادلفيا.

إن الجيش المصري الذي لم يحارب الانفاق في عهدي مبارك ومرسي ينجح في القضاء عليها في عهد الفريق السيسي. فالبيت الذي يظهر فيه باب نفق يُهدم على ساكنيه. وأصيبت صناعة التهريبات الزاهرة التي عاشت عليها حماس وسلحتها بضربة شديدة.

لكن حماس ما زالت تحفر أنفاقا بين القطاع واسرائيل. وقد ظهر اثنان أو ثلاثة منها في الاشهر الاخيرة وهم في الجيش الاسرائيلي على يقين بوجود أنفاق اخرى لم يكشف عن مواضعها. وجُندت أفرقة تفكير من الجيش الاسرائيلي ومن خارجه على أمل وجود اختراع للكشف عن أنفاق. وتبين أن العلماء لم يهتموا اهتماما خاصا بما يحدث تحت الارض بعشرات الأمتار. فالنفط والمعادن غير موجودة على نحو عام قريبة جدا تحت الارض ولهذا يهتمون. واقترح أحد المدنيين جهازا ذا حساسية عالية بكل تغيير اهتزازي، فتبين أن الجهاز يتحرك في كل مرة تسير فيها دبابة على طريق ترابي فتخلوا في الجيش الاسرائيلي عن خدماته.

غربت الشمس وبدأت الطائرات الحربية قصفا كثيفا في رفح. فكان فطر أسود ثم فطر أسود ثم فطر أسود. ثم مهلة قصيرة ثم فطر الى جانب فطر. ومع عدم وجود ريح يبقى الفطر زمنا طويلا في السماء كعمود سحاب. وسافر عدد كبير من سكان الكيبوتس واعضائه في الصباح الى كيبوتس رأس الناقورة ليستريحوا. وقد عرضوا عليهم أن يتعجلوا الخروج بسبب مسألة النفق وأصروا على الخروج في الموعد الذي حدد مسبقا.

 

صور النصر

 

في قيادة الجنوب يسمون هذه «خريطة الألم». وهي قائمة تفصل اهدافا في غزة بحسب مقدار الألم الذي تسببه اصابتها لحماس، من اكثر الاصابات ايلاما الى اضرار طفيفة. وتجهد القيادة أن تعمل بحسب القائمة من الثقيل الى الخفيف. وتعتبر اصابة القادة مؤلمة على وجه خاص. والمشكلة هي أن القادة الكبار في الذراعين العسكرية والمدنية لجأوا الى العمل السري. ويقصف سلاح الجو بيوتهم عن فرض أنه سيؤلمهم أن يعلموا أنه لا مكان يعودون اليه.

بدأت عملية «الرصاص المصبوب» في كانون الاول 2008 بقصف من سلاح الجو، وكان أحد الاهداف حفل انهاء دورة تدريب في شرطة غزة فقتل 89 شرطيا، وكان ذلك اجراءا ليست له أهمية استراتيجية لكنه علم كان يمكن التلويح به للرأي العام في البلاد؛ وبدأت عملية «عمود السحاب» في تشرين الثاني 2012 بتصفية احمد الجعبري قائد الذراع العسكرية لحماس وآسِر جلعاد شليط وكان أثر ذلك كبيرا.

إن الاجراء الافتتاحي لعملية «الجرف الصامد» لم يتح للاسرائيليين تنفيس غضب من هذا النوع. وقد صفي بقصف من الجو عدد من القادة ذوي الرتب المتوسطة – قادة كتائب وقادة سرايا؛ ودُمرت معامل لصنع وسائل قتالية ومخازن وسلاح حتى تلك التي كانت تعمل ملاصقة للمساجد. وهم في الجيش الاسرائيلي راضون عن النتائج لكنهم في الشارع أقل رضا، والشارع أو أجزاء منه لمزيد الدقة يريد صورة نصر ويريد إذلالا ويريد ضربة قاضية. إن بيبي ليّن جدا من وجهة نظرهم وحاسب للامور كثيرا وهم يريدون دما.

يتعلم الطرفان كل واحد بطريقته حدود القوة. أول أمس انتشرت صفوف دبابات المركباه على طول الشارع 232 وهو الشارع الذي يلتف على قطاع غزة من الشرق. وتوجد في تلك المنطقة ثلاثة ألوية مشاة نظامية – المظليين وجفعاتي والشباب الطلائعيين. ويجالس ضباطهم رجال سلاح الجو والاستخبارات و»الشباك» وينسقون المهام بينهم. في عملية «الرصاص المصبوب» وبعد حيرة وجدل دخلت الى قطاع غزة سبع فرق من ألوية. وانتهى الدخول الى اظهار قوة لا الى احراز هدف. وفي «عمود السحاب» صدرت تصريحات دراماتية عن تجنيد جماعي وضجيج ورنين لكن لا قوة اجتازت الجدار في واقع الامر.

إن الجيش الاسرائيلي هو العامل الذي يدعو الى الاعتدال في هذه الجولة. وفي مباحثات داخلية يثير ضباط اقتراحات مختلفة لكنهم يجتمعون جميعا في النهاية قبيل التباحث في المجلس الوزاري المصغر على نهج واحد ولغة واحدة. وقد اتعظ يعلون وغانتس بالنزاع المدمر الذي كان بين اهود باراك وغابي اشكنازي، فحتى لو وجد بينهما جدل فانه يبقى بينهما. ويتابع اعضاء في المجلس الوزاري المصغر سلوكهما ويعجبون. وقد سمى احدهم يعلون ساخرا «نائب رئيس هيئة اركان».

من المنطق أن نفرض أن تجتاز الدبابات وجنود المشاة الجدار هذه المرة. لكنهم لن يبالغوا ما كان الامر متعلقا بالجيش الاسرائيلي، ومن المؤكد أن الامر لن يصل بهم الى احتلال القطاع، فالثمن باهظ والفائدة مشكوك فيها؛ ومسألة اليوم التالي مثقلة. إن الطموح متواضع جدا وهو إحداث ردع يبقى أكثر من سنة ونصف وهي المدة التي فصلت بين «عمود السحاب» و»الجرف الصامد».

لو كانت الظروف مختلفة مع لاعبين مختلفين لأمكن أن نفكر في حلول أكثر ابداعا كالاستيلاء العسكري على القطاع مثلا واعادته الى حكم السلطة الفلسطينية أو احتلال القطاع كما يقترح اشخاص من اليمين ونصب قوة متعاملة تحكمه على هيئة جيش جنوب لبنان؛ أو استغلال ضعف حماس والتوصل معها الى اتفاق لسنين طويلة والى هدنة. وليس لافكار من هذا القبيل على اختلاف درجة هذيانها احتمال الآن لا في المجلس الوزاري المصغر ولا في الجيش الاسرائيلي.

 

أُنقروا على الخشب

 

إن قادة حماس الكبار يتعلمون حدود القوة بقدر اكبر، فقد مرت بهم سنة صعبة انتهت بشهر مرهق. وقد تمتعوا منذ نهاية «عمود السحاب» الى 30 حزيران 2013 – أي نحو نصف سنة – بفترة زاهرة فقد تبناهم حكم الاخوان المسلمين في مصر وكانت المعابر الى سيناء مفتوحة؛ وقد حكموا القطاع دون اعتراض ومنعوا الجهاد الاسلامي ومنظمات اخرى من اطلاق القذائف الصاروخية على اسرائيل. وفي 30 حزيران بدأت المظاهرات على مرسي وعُزل في 6 تموز ففقدت حماس راعيها. وأشد من ذلك أنها تحولت من مرعية لمصر الى عدوها المعلن والى اسوأ الأعداء. فمعظم لائحة اتهام مرسي يتعلق بالعلاقات بينه وبين حماس.

كان النقب الغربي هو المستمتع المباشر بفترة حماس الزاهرة، فقد جاء الهدوء على الحدود باسرائيليين آخرين الى غلاف غزة. وزاد عدد السكان في المجلس الاقليمي اشكول وحده من 10 آلاف نسمة الى 14 ألفا لكن بدأ التدهور آنذاك.

أغلق الفريق السيسي المعبر في رفح وصناعة التهريب على الحدود. وردت اسرائيل بزيادة عدد الشاحنات التي كان يمر حملها كل يوم من كيرم شالوم لكنها لم تحل مشكلة حماس بذلك، فقد اختفت الايرادات من الضرائب على الانفاق؛ وكانت السلع التي اشتُريت من اسرائيل غالية جدا زادت في غلاء المعيشة فثار الشارع في غزة ورفعت المنظمات المنشقة رأسها.

وبدأت قطرات القذائف الصاروخية من منظمات معادية لحماس أعْدَت منظمات مقدمة من حماس وأعْدَت حماس نفسها آخر الامر. قالوا في الجيش الاسرائيلي إن حماس تعيد التفكير في مسارها. وهي حائرة بين بديلين، مصالحة أبو مازن أو مواجهة اسرائيل. وقد اختارت المصالحة في البدء وبعد أن أدركت أن المصالحة لا تأتيها بالخلاص – بل يرفض أبو مازن أن يحول حتى بالمال لدفع رواتب 40 ألف عامل لها في غزة – اتجهت الى صدام مع اسرائيل.

لكن لا ينجح أي شيء، وهذا صحيح حتى كتابة هذه السطور. فالصواريخ لم تقتل اسرائيليا واحدا، وقد أصيب جندي واحد اصابة طفيفة بقذيفة راجمة صواريخ في أحد الكيبوتسات على الحدود. ونقل الى سوروكا وسُرح. وصُنف عدد من المدنيين على أنهم مصابو صدمة.

وأصيب مصنع واحد وبعض البيوت السكنية وعدد من السيارات. ولم تُنقض رتابة العيش إلا في الهامش فقط. وليست المساحة التي تغطيها صواريخ حماس اصغر من المساحة التي غطتها صواريخ حزب الله في 2006، لكن الفرق كبير جدا، وقد تعلمت اسرائيل أن تصد تهديد الصواريخ. يستطيع عمير بيرتس الذي استقر رأيه على الانفاق على القبة الحديدية أن ينسب جزءا كبيرا من هذا التحول الى نفسه.

إن عدم نجاح حماس ليس في الصواريخ وحدها بل في العمليات التي خططت لها من البحر وفوق الارض وتحتها، فقد حاول مقاتلوها مرتين دخول اسرائيل عن طريق البحر لتنفيذ عمليات وقضي عليهم في المرتين. وتم ابطال عمل النفق الكبير قرب كيرم شالوم. وصحيح الى الآن، وأنقروا على الخشب، أنه ليس لحماس انجاز عسكري تستطيع أن تفخر به سوى حقيقة أنها زالت تطلق القذائف الصاروخية برغم قصف الطائرات والمدافع.

 

يديعوت