عندما يبكي الشرطي الفلسطيني

بقلم: 

عندما قُتل الضابط الإسرائيلي باروخ مزراحي في عملية عسكرية نوعية قرب بلدة ترقوميا، أقصى جنوب الأراضي المحتلة العام 1967، منتصف الشهر الماضي، رفع دبلوماسي أميركي يعمل من القدس الهاتف، وبدأ يتصل بمسؤولين فلسطينيين يسألهم لماذا لم تصدر إدانة فلسطينية رسمية للحادث؟ ردّ مسؤولون فلسطينيون في البداية برفض فكرة الإدانة من منطلق أنّ هذا استيطان ومستوطن. وبقي الضغط الأميركي والإسرائيلي حتى قال الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس، في لقاء مع أعضاء الكنيسيت الإسرائيلي، إنّه يعتبر العملية "عملا إرهابيا مدانا"، وأنّه "يدين الإرهاب بكافة أشكاله". وصدر عن وزير الأوقاف الفلسطيني تصريح أغضب الكثيرين؛ ففي حديث للإعلام الفلسطيني، حاول محمود الهبّاش توضيح ما قاله هو لصحفيين إسرائيليين، ووضعه في سياق أنّه "ذكّر" الصحفيين بالفلسطينيين الذين قتلهم الإسرائيليون العام الماضي، وبالبيوت التي هُدّمت والأشجار التي قُطعت، وأنّ هذا لم يتبعه استنكار من أي قيادي إسرائيلي. ولكن الهبّاش قال: "الدم الفلسطيني مثل الدم الإسرائيلي؛ دم إنساني غالٍ، ولا أحد يريد لأحد أن يُقتل"، وكان هذا سبب الغضب ضده.

لم يحصل بنيامين نتنياهو على تأييدٍ ودعمٍ من الطرف الأميركي كالذي حصل عليه إيهود باراك، رئيس الوزراء الإسرائيلي، عقب انهيار مفاوضات السلام الفلسطينية-الإسرائيلية العام 2000؛ عندما حمّل الأميركيون الجانب الفلسطيني، وخصوصاً الرئيس ياسر عرفات، مسؤولية فشل المفاوضات. فهذه المرة، حتى السياسي الصهيوني الأميركي مارتن إنديك، الذي عُيّن مبعوثاً أميركيا للسلام، حمّل الاستيطان الإسرائيلي والسياسات ضد الفلسطينيين مسؤولية فشل المفاوضات. بل إنّ الموقف الأميركي من حكومة الوحدة الفلسطينية والمصالحة، بدا هادِئاً ومُتقبّلا إلى حد ما، في انعكاس آخر لتقييم الموقف بشأن المسؤولية الإسرائيلية عن فشل المفاوضات.

هذا "إنجاز" دبلوماسي فلسطيني لا يرقى عند المستوى الشعبي الفلسطيني إلى درجة أن يصبح "نصف الكأس الممتلئ"، الذي يشكل إيجابية تُسعد أو تُرضي الشارع، وتدفعه للاحتفال. وعلى سبيل المثال، أَحرَق ناشطو حركة "فتح" في جامعة بيرزيت صورة الوزير الهبّاش، احتجاجاً على تصريحه بشأن "تماثل" الدمين الفلسطيني والإسرائيلي، في مناسبتين، في سياق الانتخابات الجامعية، في إدراك واضح للمزاج الشعبي، ولما يريده الشارع.

في مكان قريب للغاية من المكان الذي أحرق فيه ناشطو "فتح" في جامعة بيرزيت الصور، اجتمعت جماهير كبيرة يوم الجمعة الماضي تشيّع شابين، أحدهما دون الثامنة عشرة من عمره، قتلهما قنّاص إسرائيلي بسابق إصرار أمام سجن عوفر في اليوم السابق. ففي ساحة ملاصقة لحرم جامعة بيرزيت، وفي مكانٍ هو تقريباً مفترق طرق بين قريتي نديم نوارة (17 عاما) من قرية المزرعة الغربية، ومحمد أبو ظاهر (20 عاما) من قرية أبو شخيدم، صلى المشيعون على الشهيدين.

الصحفي محمد مرار، كتب في تقرير نشره موقع وكالة أنباء "زمن برس"، يصف حواراً سمعه بين شرطيين فلسطينيين كانا قرب ثلاجة الموتى في المستشفى حيث أُرسل الشهيدان، وكيف دمعت عينا الشرطي وهو يقول لزميله أنّ نوّارة قُتل بأربع رصاصات في صدره من صهيوني حاقد.

ربما يُدافع  صاحب رأي أنّ الجهد الدبلوماسي سيأتي بنتيجة، حتى لو لم يدرك الشارع ذلك بوضوح، وأنّ الموقف العالمي الحالي، وحتى الأميركي، من الحكومة الإسرائيلية غير مسبوق. إلا أنّ الأكيد أولا أنّ هذا التقييم لا يتبناه الشارع الفلسطيني، بما في ذلك ناشطو حركة "فتح" الميدانيون، وأنّ شعور العجز عندهم بل وعند أفراد الأجهزة الأمنية الذين يعانون على الحواجز العسكرية الإسرائيلية كأي فلسطيني، والذين ما تزال ذكريات قصف مقراتهم الأمنية واغتيالهم إبّان انتفاضة الأقصى في مخيلتهم، يدفع لليأس؛ خاصةً أنّ الجانب الإسرائيلي بالتوازي مع الموقف العالمي المستاء، لا يرتدع ويستمر في الاستيطان، ويزيد القتل في الشارع، ويستعد بوضوح لمعركة كسر عظم مع الأسرى.

واجب السياسي، أي سياسي في العالم، حماية شعبه أولا، من دون أن يساوي بين دمه ودم أي طرف آخر. والدبلوماسية والحنكة أن يقول هذا بطريقة لا تثير غضبا دوليا، وأن تلقى تأييدا محليّاً. إلى ذلك، فإنّ إيجاد آلية لوقف القتل الإسرائيلي هو البوصلة الحقيقية للأحداث في فلسطين في المرحلة المقبلة.