نكافح للحياة لا من أجل الموت‎

بقلم: 

مناسبات ثقافية كثيرة تحدث في مدينة رام الله، وتنوع تشهده منذ سنوات عديدة فهي تجمع توجهات كثيرة تتراوح ما بين التشدّد الرافض للاستماع ويريد فلسطين لونا واحدا، وصولا إلى انفتاح يقبل الآخر ولا يجد غضاضة في وجوده حتى وإن اختلف معه الرأي.

والمغالاة في الأمور لها أشكال كثيرة ومتنوعة، منها ما هو مستند إلى تشدّد ديني يعتبر أن الله قال كلمته في كل شيء، وتطرح فيه تقديرات واجتهادات لأصحابها على أنها الأقرب إلى الدين ونصوصه "وإرادته"، وحينما يقف الجميع أمام الدين احتراما، تُصبح تلك المواقف بوابة التدخل في شؤون الآخرين، ووسيلة لمصادرة إرادتهم، ومدخلا للسيطرة البشرية لا لتسوية الأمور انتظاما على ما يريد الله فعلا.

ولخصوصية الحالة الفلسطينية التي تجعل الفلسطيني في حالة صراع دائم مع محتله، بات بمرور الوقت مبدأ مقاومة الاحتلال بكافة الأشكال والصور، سلوكا يوميا، وانحصر في أذهان الجميع أن المرادف التعريفي لكلمة فلسطين لا يجوز أن يكون إلا تلك الصورة النمطية عن مقاوم يحمل بندقية، وأم تندب شهيدها، وأسير يرزح في نير الأسر، فصورة فلسطين هي تلك الصورة المحملة بالمعاناة الأكبر، ومنطقها التقليدي المستند إلى هذا التوصيف أن يكون الفلسطينيون في خبزهم ومائهم وسيرهم في شوارعهم ثوارا ومناضلين لا يدركون سوى فعل الكفاح من أجل الحرية.

هي رومانسية الصورة المرتبطة بموروث ثقافي تراكم عبر الأجيال، أبى فيه العربي أن تهز صورته فيها حين يُضام أو يهان، وجُعلت السعادة مؤخرة أمام عاجل التحرر من عار المهانة والإذلال، فكيف يطيب العيش وأخي يُضام وبيتي يُرجم بالعداء؟ هكذا ينشأ العربي، وهكذا استقر في قلوب الأجيال عبر التاريخ وصولا للحالة الفلسطينية.

ولأن قيود الصورة المرسومة قديما تتجدد أغلالها عبر العقود، نجد التشدد في تسيير حياة المواطنين وفق آراء مختلفة متنوعة، تصل إلى مصادرة أحقية الإنسان في ممارسة حياته تارة باسم الدين، وتارة بحجة أن فلسطين محتلة، وتصل الأمور في ذلك حد إيهامنا دوما بأننا مقصرون في حق أنفسنا ووطننا.

فحدث لمغنَّ شاب اسمه محمد عساف، وعرض لأزياء، وآخر للرقص في رام الله أثارت ثلاثتها جدلا وتخوينا وإساءات امتزجت فيها الأفكار المتشددة، مع الأعراف المجحفة، بالمواقف السياسية والأهداف الحزبية أيضا! في تشكيلة سامة مقومها الأساسي عدم قبول الآخر، والديكتاتورية الصغيرة الموجودة في كل نفس فيها تقبل أن تفرض رأيها وتعتبره الأوحد – والمثير للسخرية أننا في الختام نرفض المظاهر الديكتاتورية في وصفات انتقائية نُكيفها وفق رغباتنا-، ونتيجة ذلك النهائية تشويه مستمر للوعي الأكبر من أن يُحصر في مفاهيم الوطنية والتحرر فقط.

وكمية الجدل والإسفاف في لحظة من اللحظات تجعل الفلسطيني يستشعر بأن قومه لا يقومون بشيء سوى اللهو، ولربما تكون حالات الاعتقال، والحملات ضد الاستيطان والجدار، والمواجهات في نقاط كثيرة مع الاحتلال، والاعتقالات المستمرة من الاحتلال بحق الشباب – والتي لا تكون إلا لعملهم النضالي - مجرد أكاذيب في فلسطين التي باتت في نظر البعض إما راقصة أو مغنية أو عارضة أزياء عند أول مناسبة لا علاقة لها برمي حجر على دورية!

 

والمثير أن الحديث المتصاعد عن الحريات واحترام خصوصية الآخرين يترافق مع تلك الجدالات التي تصادر تارة باسم الاخلاق والدين، وتارة باسم الثورة أي شيء لا يتوافق مع تلك الصورة النمطية التي كرسها الوقت في وصفنا، ويستحي الكثيرون من بروز غيرها ظنا ان ذلك "يشوه النضال والثورة"، مع أن ثورات الشعوب وقودها ثقافتها ووعي أبنائها في الباب الأول، تلك الشعوب التي لم يكن كل أفرادها حملة للسلاح أو رهبانا أمام مذبح الكفاح؛ بل كانت متنوعة بمواطنين ولكل مجتهد منهم مجال.

وربما عبر الشاعر محمود درويش عن ذلك بقوله: كم كذبنا حين اعتبرنا أنفسنا استثناء، وحين فند إبراهيم جابر تلك الذهنية التي تصف الفلسطيني بالمقدس، وتبعده عن طبيعية الحياة والرغبة فيها.

والأنكى أن يكون الحديث بأن الرئيس أو السلطة جدير به أو بها أن توقف مثل تلك المناسبات، في دعم غير مباشر للتسلط، وبلا وعي إلى أن هذه الدعوات اللحظية النفع، لا تُنتج في المدى البعيد إن تجاوبت معها أي سُلطة سوى تدخل "رسمي" أضافي في الحريات العامة، ونظاما شموليا قمعيا نرفضه ولا نريده، ودعوة كهذه من فئات تؤمن بالحريات العامة في الحياة والتعبير والرأي، تشكل لطمة حقيقية على الوجه.

قد يظن البعض أن على ساعة فلسطين أن تتوقف، وتنتظر تحررها لتنطلق في كل اتجاه له في المدنية، والثقافة، والتطوير، والتنوع، ولربما يكون هذا الرأي نابعا من قناعة بأن ممارسة الحياة في كينونتها الطبيعية لا علاقة له بالتحرر وهذا ما نختلف معه، فالنضال ليس للأرض وكنس الاحتلال، فهذا عنوان رئيسي عام تندرج تحته تفاصيل كثيرة تغيب لكنها أصيلة، ولها علاقة في حق الشعب بالحياة والدفاع عن نمط معيشته التي كانت منذ القديم "تقدمية"، والتراث المتحدث عنها ليس ثوبا مطرزا أو وشاحا وكوفية فقط، فهذا فلكلور الريف الذي نتذكره لننسى كيف كانت تعيش فينا المدنية والحداثة قبل الاحتلال.

ولا مانع من التساؤلات التالية: هل الحالة الثقافية بمفرداتها المتنوعة التي يقبلها البعض ويرفض جزءا منها بعض آخر، هي السبب في استمرار الاحتلال؟ وهل الغناء تكريس له؟ وأن كان كذلك هل ستكون الأغنية الوطنية والدينية من ذات التصنيف؟ هل تلك المناسبات وحالات "الفرح" الذي يُذم هي جزء من الاحتلال أم ماذا؟ وإن كان كذلك فهل كان من الأولى لمحمود درويش أن ينشأ مقاتلا لا شاعرا كلماته لم تكن كلها عن المقاومة وكنس الاحتلال؟ أم أن رسومات ناجي العلي وقصص غسان كنفاني وأشعار الحب التي كتبها أفذاذ فلسطينيون وفرق موسيقية قديمة وحديثة جدير ألا تكون منا ولا فينا؟ فكلها تفاصيل مترابطة تنتج بعضها بعضا وموروثات ثقافية لا تتجزأ.

لن أختلف مع الشاعر الشاب "عرفات الديك" الذي يحب فلسطين بمناضليها وفنانيها وعارضاتها ومغنيها، ويحبها كما هي "شقراء" جميلة، تهب أمام الاحتلال، وتحتفي مستمتعة بالفن والأدب؛ فنحن متنوعون كي نكون شعبا مختلفا لا حزبا شموليا متفقا في كل شيء، نكافح للحياة لا لنتقن فن الموت.