كتقليم العنب

فلسطين

لا حب بدون وطن!
قالت لي وهي تحاورني قبل 3 عقود: إنما يقصد الشاعر محمود درويش الوطن، والمرأة رمز.
أظننا كنا نتحدث عن ديوان "ورد أقل"، والذي ظهرت فيه اتجاهات شعورية جديدة للشاعر.
قلت لها: بل يقصد المرأة أيضا!
فاحتدت على غير عادتها قائلة، لا يمكن أن تحضر المرأة هنا، حبيبته هي فلسطين.
قلت والقصيدة تحتمل الحب العادي أيضا بين حبيبين.
كنا في بداية العشرين من العمر، في بداية التأمل والتفكير والنضال الوطني طبعا والحب!
هي يسار، وأنا بعض منه ومن جهات أخرى، حسب ما كان يقودني شعوري الفطريّ القرويّ وعقلي التقليديّ المنمط الملائم لشاب يعبر الحياة كما أريد له أن يكون كذلك، ضمن مخرجات نظم ثقافية وتربوية واجتماعية.
لم يكتمل حوارنا، أما أنا فتركت البلاد لدراسة الأدب العربي في مصر، وأما هي فتركت الدنيا عبر مصير تراجيدي، لم تسعفني الظروف لأعرف التفاصيل، ولم تمنحنا الحية أيضا وقتا لنكمل الحوار.
اليوم أراني أكمل الحوار من جانبي، وأنا أقلم العنب والكرز والمشمش والحياة في أعالي جبال القدس المطلة على رام الله، فأعود إلى درويش وتلك الإنسانة في بدايات العشرين، وأرى نفسي منحازة للوطن، المكان-الأرض والإنسان-والحبيبة.
على أبواب عيد الحب ونوافذه، في بداية دفء التراب والصخر، والماء، يكون الربيع قد بدأ قبل أوانه، فشمس شباط ذائعة الشهرة، وهو الذي "يشبط ويخبط وريحة الصيف فيه"، على أبواب دفء الحب وجدتني أكتب شيئا عن الحب، كشعر منثور، استجاب له كثيرون، وآخرون أعجبوا ثم راحوا يهمسون: يحب!
كان الشعر البسيط للحب فعلا، ولكنه كان وفاء للوطن، فليس من المعقول ألا نرى ويرى الناس فيه إلا الصراعات والنزاعات.
رحت كالمجنون أتسلق الجبال والمطر
لعله يبردني فإذا بي
أعرق أسئلة عن الكون
وانا كل ما يشغلني في الكون أنت
أكاد أصرخ بالمتنازعين في المكان وعليه:
- هل انتهيتم من الحب؟
- مجنون!
- لا مكان إلا باطمئنان الروح
- رسول؟
- أو شاعر!
قلبي وعقلي موزعان بين الشخصي والعام، قلبي هو قلب الشعور، وعقلي بما أفكر فيه من حال بلادي في نزاعاتها المتعددة، في صراعها الصعب مع الاحتلال، ومقابلي جزء منه تجلى في امتداد مستوطنة جفعات زئيف، بجدار الضم والتوسع الذي صادر أراضي القرويين وجزءا من أرضنا المعمورة زيتونا وعنبا وتينا وبرقوقا..
إضراب المعلمين والحراك الذي واكبه، وردود الفعل المختلفة، في ظل التباين والاختلاف والتحالف والتخاصم السياسي، تؤكد على ما لا أحب أن يكون وهو الفوضى التي ربما يتم استغلال أي فراغ لملئه بحجة الخلاص الجمعي، ولا أظنه إلا خلاصا فرديا لأفراد، ينسجم مع خلاص احتلال لا يريد لكياننا السياسي أن يكون وأن ينمو.
هل هناك مسافة فعلا بين القلب والعقل؟
ليته كان بالإمكان عد الساعات
فطالت الثواني صارت زمنا لست أعرفه
لا مقياس لدي أقيس به زمن الغياب
كنت أظنه سهلا حتى افترقنا
فكيف سأحيا كما الناس من حولي
كان لا بد منه
من الشعر حتى أحاول التعبير عن غربة الحمام
أتأمل حركة المقص على الأغصان، كم يشبه التقليم (التقنيب كما ينطق القرويون) تحرير النصوص: ذلك نقصه، وهذا نقص بعد العقلة الثالثة أو الرابعة أو الخامسة، وآخر نتركه طويلا لنستثمر فيه الثمر والورق، ولي اليوم تأمل الحكم أيضا: لا بد من التقليم ليتحسن شجرة الحكم وتتقوى (لتوفيق الحكيم كتاب بهذا الاسم: شجرة الحكم السياسي في مصر). فيمكن للحكم العقلاني المسؤول أن يحسم أمره، فيرى من أين يجب أن يقص أو ينشر، وأين يمكن الاستثمار، والذي عادة ما يكون في الغصن الجديد.
ليست هناك مسافة فعلا بين القلب والعقل كما نرى وترى. ولا تناقض بين الهموم الشخصية والهم العام، ولا في اهتمامات الإنسان العاشق وهو يعد باقة من الأزهار البرية مع طفلته سارة ابنة الأربع سنوات، وبين الاهتمام لبناء وطن حرّ نمارس فيه مسؤولياتنا، ونحمي فيه إنجازاتنا التي نحن بحاجة لها.
يمكننا أن نفكر ونشعر بذواتنا العاشقة والراعية لأسرنا الصغيرة، وفي الوقت نفسه نفكر موضوعيا في الأسلوب الأمثل في إدارة البلاد، وفي الحكم السياسي، وفي الفكر أيضا والثقافة واجتماعنا معا هنا في ظل صراع تاريخي صعب.
هل هي الشتاء أم الصيف؟
لا أرى المطر، ولا أسمع الريح
ولا نار هنا
لا نار سوى نار الشوق
أكان لا بد من السفر حتى أطفئ النار!
وجع القلب صعب لانه يصل إلى كل مكان
أشعر من بضعة أشهر أن هناك من يريد أن يستغل الظروف، ولا يجد غير الفوضى كي يصطاد في المياه العكرة، من؟ ولماذا؟ وكيف؟
من؟ كل متهالك على الحكم، والحق هو الزهد به، كونه ما هو عليه، وثقل المسؤولية.
لماذا؟ هو الهدف: الخلاص من الفلسطينيين سياسيا، وإبدالهم كيانا  غير ما توقعوا وانتظروا. كيف؟ في ظل الفوضى يصبح من يوقفها مخلصا!
فلماذا لا نفطن لذلك كشعب خارج لعبة المصالح أصلا؟
لماذا نعود إلى الوراء خطوات حتى يعد العودة إلى ما كنا عليه إنجازا!
لماذا لا تكون سقوف مطالبنا أعلى من الآن؟
لماذا نقبل بأن يتم اختراق مشروعنا الوطني بإقامة الدولة المستقلة؟
إما دولتان، أو دولة واحدة، أما أن يتم بعثرتنا فلا يمكن لنا كشعب عريق أن نقبل به، وعلينا أن نقطع الطريق على أية خطوة تدخلنا نفقا معتما لا خروجا سالما منها؟
لا يجب أصلا أن تكون هناك مسافة فعلا بين القلب والعقل!
خاطبت عصافير كانون
وأزهار البر
والبحر البعيد
فأشفقت الكائنات
والصخور
أكان لا بد من حبك حتى أجرب الجنون
منظومة واحدة من الوعي: تضم الحكم السياسي والإدارة الحكومية والحكم المحلي، والإعلام والنقابات، والأمن. لا تناقض بيننا، لا ينبغي أن يكون إلا في وجهات النظر.
منظومة عقلانية تمنع أي خطوة باتجاه الفوضى.
منظومة وطنية مسؤولة متعاونة تحترم الوطن والمواطن، تدرك بعمق معنى الانفلات والفلتان والفوضى الميدانية، تقود بحكمة وترو لا بانفعال نزق، ولا بأي كلمة أو تصرّف تغري المتربصين بنا كي نتنازع فنفشل فيأتي لتخليصنا الوهمي، لأن خلاصنا الحقيقي معروفة أبوابه: الخلاص من الاحتلال.
منظومة تحترم المواطن وتحرص على أمنه وحريته وكرامته، هذا ما نتسلح به ونحن ماضون للتحرر، ولا تحررا بدونه ولو حرصنا.
هل تراني أكملت الحوار في ثنائية الوطن-الحبيبة أو الحبيب!
لا حب بدون وطن ولا وطن بدون حب!

التدوينات المنشورة تعبر عن رأي كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي زمن برس.