زيارة إلى القدس

أيقظتني زوجني ذات صباحٍ وقالتْ لي: ألا تريدُ أنْ نذهبَ اليوم سويةً إلى القُدسِ؟ فأنتَ لطالما حدَّثتني عنْ شغفكَ لزيارتِها ولرؤيةِ جمَالِها وجمَالِ أسوارها وأبنيتها وأزقّتها، فردّيتُ عليها بلا، فأنتِ تعلمين بأنّني أعشقُ القُدسَ، وأعشقُ السّيْرَ في شوارعِها، وعشقي للقدسِ ما زال فيّ ينبضُ.. فسُرّتْ مِنْ كلامِي وراحت ترتدي ملابسها، فقمتُ مِنْ فراشي وجلستُ على الأريكةِ أحتسي فنجانَ قهوة الصّباح، ورحتُ أتذكّرُ زياراتي لمدينةٍ أحببتها وما زلتُ أحبُّ زيارتها باستمرارٍ، لكنَّ الاحتلالَ يمنعنا، ويُسمحُ لنا بدخولِها فقطْ في الأعيادِ، لأننا نحصلُ على تصاريحِ زيارةٍ لدخولِها، ولهذا نقومُ بزيارتِها حينما يكونُ بحوزتنا التّصاريح، يا للغرابة.. فأعمارُنا ما زالتْ لا تسمحُ لنا بالدّخولِ، عبر حواجز مقيتة إلى مدينةِ السَّلام هكذا يرى الاحتلال..

كانتْ زوجتي ترتدي على عجلٍ، فهي مثلي تتوقُ لزيارةِ الأماكنِ المُقدَّسة، وبعدما ما ارتدينا ملابسنا العاديّة انطلقنا بسيارتنا، ووصلنا إلى مدينةِ رام الله قبيل الظهيرة، وركنّا السّيارة بالقُربِ مِنْ ملعبِ مدرسةِ الفرندز، وذهبنا سيراً حتى موقفَ الحافلات، وركبنا الحافلة المُتجهة إلى حاجزِ قلنديا، وعندما وصلنا الحاجز، نزلنا لكيْ نمرَّ عبر نُقطةِ التَّفتيش، وولجنا بوابة المعاطة، ونظرتْ المُجنّدة إلى التّصاريحِ وهوياتنا الشّخصية وسمحتْ لنا بالمرورِ، وهناك ركبنا في حافلةٍ أُخرى، وانطلقت صوب مدينةِ القُدسِ، وفي الطَّريقِ تشاءمنا مِنْ رؤيةِ الجدارِ، الذي يفصلُ مدينة الرام، وشاهدنا في الطريق مستوطنة بسغات زئيف وكبر حجمها، وكأنها مدينةـ وبعد دقائق شاهدنا مستوطنة التلة الفرنسية، وعند وصولنا إلى حي الشّيخ جراح، تذكَّرتُ طفولتي عندما كنتُ آتي لمُشاهدةِ الأفلام في سينما النّزهة، وقلتُ لزوجتي: ما أروع تلك الأيّام، لمْ يكنْ حواجزٌ في ذاك الزّمان، وتحسّرتُ على تلك الأيام الجميلة، وقلتُ في ذاتي: ما أروع مدينة القدس! فكنتُ دائم الزّيارة لمدينةٍ أراها الآن مُحاطة بجدارِ فصلٍ.

وعند وصولِنا محطة الحافلات في شارعِ نابلس، نزلنا وتوجّهنا صوب بابِ العامود، وشعرنا بحُزْنٍ، لأنّنا لمْ نرَ أُناساً هناك، كالعادة، وولجنا إلى داخلِ زقاق خان باب الزّيت، وشعرنا بعبقِ المكان، وقالت لي زوجتي: ما أروع هذا الزُّقاق فهو يذكّرني بأزقّةِ نابلس، فقلت لها: بلا يشبه كثيرا، لكنّ أزقَّةَ القدس تعبقُ بقُدسية المكانِ، ووصلنا إلى كنيسةِ القيامة ودخلناها، ولم يكنْ هناك حُجّاج كالعادة، وصلّتْ زوجتي هناك لدقائق، وأوقدنا الشموع، وخرجنا، وعدنا عبر طريق الآلام، ومن ثم عرجنا على شارع بابا الواد، وسرنا ببطء هناك ورأينا المحلات والمطاعم وكانتْ شبه فارغة، وبعد دقائق مِنْ سيرٍ بطيءٍ وصلنا إلى بابِ العامود، وسرنا باتجاه شارع السّلطان سليمان، وتناولنا الغداء في أحد المطاعم، وسرنا بعدما نفثنا دخان سجائرنا في الهواء باتجاه مغارة سليمان، ودخلناها بعدما قُمنا بدفعِ دخولية، وقلتُ لزوجتي بأنّني هذه أول مرة أقوم فيها بدخولِ هذه المغارة الكبيرة، وسرنا بداخلها لمسافة تزيد عنْ مئتيّ متر، وانبهرنا مِنْ حجمِها الكبير، وعُدنا إلى محطّةِ الحافلاتِ مُنهكيْن، وصعدنا إلى الحافلةِ المُتجهة إلى رام الله، وقلتُ لزوجتي: لا أدري لماذا أعشقُ القدسَ وأُحِبُّ زيارتها؟ فقالتْ لي :لأنَّ القُدسَ فيها عاشَ الرُّسل والأنبياء، أو لربما لأنَّ القدسَ هي مدينة السَّلام، فقلتُ لها: لأنَّ القُدسَ هي الحُبُّ الفلسطيني فزيارة القدس كانت رائعة، مع أنني شاهدتُ الحُزْنَ الجليّ على وجوه ساكنيها.

التدوينات المنشورة تعبر عن رأي كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي زمن برس.