رام الله التي كانت

بقلم: 

رام الله مدينة ولدت جميلة ومنَّ الله عليها بزوايا آسرة ولكل زاوية حكاية وكل حكاية أصبحت ذكرى بعيدة لرواد المدينة وعشاقها الأوائل. مطعم نعوم، سرية رام الله، كلية المعلمين، روابي الطيرة البعيدة، نزهات الجبل، جامعة بيرزيت، الخمارة. الحكايات الشيقة حول شجرة الميلاد، الضحكات الصغيرة على طريق المدرسة، مغامرة وضع العلم على عامود الكهرباء، منشورات الجدران وشعار الفصيل، سهرات النادي الأرثوذكسي، عروض فرقة الفنون، الأعراس في وسط الشارع، رائحة خبز الطابون الخارجة من البيوت. يتلاشى كل هذا بعد أن تسللت الكتل الاسمنتية من قلب المدينة إلى أطرافها.

ولا يكاد المرء ينظر إلى رابية صغيرة حتى يخزه مشهد لبنايات تحت الانشاء تناثرت كالبقع البيضاء على ثوب الجبل الأخضر. المقاولون ومتعهدو البناء يملأون المدينة بصناديق اسمنتية ويهرعون في نهاية يوم مليء بالدفعات المقدمة والشيكات ومخططات لبنايات جديدة إلى جبل خالِ حيث بيوتهم في القرية. هذا المد الاسمنتي لا يعكس امتداداً حضارياً حيث تتناثر المباني الجديدة على السفوح بلا بنية تحتية تحميها ولا شوارع يمكن للمرء أن يسلكها. ما يحدث في رام الله ليس سوى إحلال الجديد مكان القديم دون خطة حضارية، بل لملء الفراغ الجبلي لأغراض مادية واقطاعية بحتة.

الشوارع التي استمتع المارة بها قديماً أصبحت مرتعاً للسيارات الفارهة وسكنت المقاهي الغربية الدلالة جانبي الطريق واستولت شركات تتقمص دور الشرطة على ما تبقى من الرصيف الصغير. المارة الذين لا يستهويهم هذا الايقاع المتسارع لمدينة كانت أقرب إلى قرية منذ زمن قليل يهرولون من أمام المقاهي لتبتلعهم الأحياء البسيطة قبل أن تنهشهم أعين روادها.

رام الله المدينة التي إذا خفضت بصرك فيها ترى مقهى وإذا رفعته ترى لافتة لشركة أو مؤسسة بإسم أجنبي صارت وجهة للباحثين عن فرصة عمل وللطامحين لمستقبل أفضل لا توفره باقي المدن الأخرى. على المقاهي الصغيرة يتجمع الأمثال والأضداد من كل مهنة ممن لم يجدوا متسعاً في المدينة إلا حول طاولات تنتظرهم لاستكمال نميمة سابقة عن أحدهم.

نريد مدينة واسعة بمقاهِ قليلة، نريد مدينة تحتمل هذا العدد من الشعراء والكتاب والموهوبين والفنانين والموظفين وعابري السبيل، نريد مدينة يصبح للمدى فيها دور كبير، نريد مدينة تمنحنا هامشاً سخياً من التأمل، نريد مدينة بأشجار أكثر، وورود أكثر، وألفة أكثر وبنايات أقل. نريد مدينة ببدلات أقل، وسيارات قديمة، ومبانٍ قديمة. نريد مدينة لا تضطر فيها لأن ترى خصمك ثلاث مرات في اليوم.

 

التدوينات المنشورة تعبر عن رأي كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي زمن برس.