يوميات شاب صحفي في غزة (1)

إنها بدايةُ السنة، ولستُ رائعًا بما يكفي للفتِ أنظارِ فتاةٍ محليةٍ على شارعٍ قريبْ، إنني أقرأ الشِّعرَ مثلما يلزمُ أن يقرأه شابٌ مثلي في العشرين، وأتفحصُ روابطَ التقارير الصحفية دومًا عبر الإنترنت، وأشاركُ ما أكتبهُ آلافًا، إنني أحُبُ وأندمُ مثلما تندمون، وأنامُ كيفما تنامون، وأشتمُ أشياءً كما تشتمون، وتزورني أمراضٌ في الشتاء والصيف كما تزوركم أحلامكم بعد الواحدة فجرًا.

رفقائي ليسوا سيئين كثيرًا، لكن سوءهم يَزدادُ في العطلات، يبيعونه للمارة وأساتذة الصحافة والفتيات بالمجان، ويلهون مع أغانٍ قادمةٍ من الهاتف المحمول.

في المرة الأولى التي قررتُ فيها أن أكون صحافيًا، أعادتني الظروفُ الجوية العاصفة قصرًا إلى البيت المُلقى قريبًا من حدود خان يونس - جنوب قطاع غزة - مع إسرائيل، ظننتُ حينها أنني سأتمكنُ من العودة إلى المُصاب برصاصٍ إسرائيلي لأخذِ شهادته.

سمعتُ في المذياع أن الموتَ كان أعجلَ مني إليه.

في المرة الثانية، نجحتُ، وكان قد مضى على دخولي لقسم الصحافة في الجامعة الإسلامية بغزة شهورًا، دقّت أصابعنا أختامَ الباب، تخرجُ " جُمانة " بسنواتها التي تجاوزت العشر، تسأل من أنتم ؟، صحفيين، آه تذكرت. ندخلُ سويًا، جدتها تتفحص وجوهنا، ترحبُ بنا، لا أكوابُ شآي ولا قهوة، لإننا نعرفُ أن المسألةَ أطولُ في سردها من تناول كوبٍ واحد لمراسلٍ ومصورٍ يعشقان الشآي والقهوة.

عن والدها المعتقل في سجون إسرائيل، تروي الطفلةُ الحكاية، مررنا بالكآبة التي تعرفنُا كصديقٍ دائم ونعرفُها كرفيقة عمرٍ هنا في غزة، تمت عملية تدوين المعلومات بنجاح، التقطنا صُورًا، وغادرنا مُلغمِّين بقصةٍ ينبغي تحريرها بدقةٍ.

في اليوم التالي، كان الخبرُ معروضًا على افتتاحيات المواقع والوكالات الإخبارية، ومُـتداولًا على شبكات التواصل الاجتماعي بين شبانٍ وشابات تهُمهم القصص الإنسانية التي تُخفيها أزقّة المُخيمّات، فكان العنوان التالي إختصارًا لقصتها:" جُمانة .. فقدت كل ما يعني لها شيئًا ومرفوضة أمنيًا من زيارة والدها"، مع الإشارة إلى أن أمها توفيت وهي طالبة جامعية قبل سنوات بعد أن أغارَ المرضُ على جسدها في غياب الأب.

في التعرف إلى قصةٍ جديدة، ينبغي عليكَ أن تفكرَ جيدًا، ايُّ الجوانبِ ستختارك، فبقدر ما تكونُ مقتنعًا أن للصحفي القدرةَ على إختيار الزاوية الأبرز في حدثٍ ما، فإنني أعود وأعدل عن تلك القناعة، فكل القصص التي سجلتها إلى الآن، اختارتني فيها الزوايا والجوانبُ الأبرزُ لأكون سيدها الذي يُدّونُ كل صغيرةٍ وكبيرةٍ أعتقد أنها تلزمُ للوصول إلى قلوبِ القُرّاء، فلا تكن بعيدًا عمن تود أن تكتبَ قصته، ولا قريبًا للحد الذي يُربكك عن الاستمرار في ملاحقتها، كن عادلًا وأحسن إلى المساحة التي لم تمتلئ بعد بنص قصتك.

أُقابلُ في حرمِ الجامعة، وعلى مرأى الشمس، طلابًا مُهندَّمين، قد لا يلتفتُ أيُّ صحفي شاب لازال يتلقى دروسًا في هذا المجال إليهم، نجلسُ سويًا، نخوضُ حديثًا تُسيّرهُ حالةُ الطقس، أو حدثُ اليوم الرئيسي، أو اختبارات نصف الفصل، أو حتى مذاقُ البطاطس المقلية في الكافتيريا القريبة، فجأةً يُمسِك لسانه بخيط قصة معاناة أو فكرةِ معقولة، أحتفظُ بما أفصح عنه، وأغادرُ إلى طريق التعرف على قصة صحفية جديدة.

 

*في مقابلتي مع جمانة في رفح جنوب قطاع غزة

- في مقابلتي مع جمانة بمدينة رفح جنوب قطاع غزة

 

* محرر صحفي للقضايا والقصص الإنسانية 

 

روابط ذات علاقة

بالصور: جمانة .. فقدت كل ما يعني لها شيئاً ومرفوضة "أمنياً" من زيارة والدها

 

التدوينات المنشورة تعبر عن رأي كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي زمن برس.