فوضى السياسة
إذا كان مقبولاً في علم السياسة، أن يندهش المواطن العادي، أو أن يتفاجأ، إزاء الإجراءات القوية، الشاملة، والمتسارعة التي اتخذها الرئيس المصري محمد مرسي، فإن من غير المقبول، بل ونجرؤ على القول إن هذه الإجراءات لا ينبغي أن تفاجئ السياسيين، وقادة الأحزاب وأعلام الرأي العام. هل كان هؤلاء يتوقعون أن يلبس الرئيس مرسي قفازات من حرير، أو أن يظهر مرونةً وتراخياً إزاء سؤال من يحكم مصر خلال المرحلة المقبلة وإزاء التحديات الضخمة التي تواجه مصر؟ من الواضح أن المتفاجئين والمندهشين وحتى الغاضبين من قادة الأحزاب والسياسيين، يفتقرون لقراءة أبجديات العمل السياسي، وبعضهم لا يزال يراهن على طبيعة وحجم الجهاز الذي يحكم الدولة، في مصر الكبيرة، من شأنه أن يخلق عقبات كثيرة، لا تسمح للإخوان المسلمين، من التمكن من الحكم، الأمر الذي سيؤدي إلى فشل التجربة. هؤلاء مخطئون جميعاً فالحديث لا يدور عن رئيس فرد، أو مواطن يتمتع بالكفاءة التي حملته إلى كرسي الرئاسة، بل عن رئيس يمثل حزباً سياسياً عريقاً، يزيد عمره على ثمانين عاماً، حزب شعبي كبير، لا يدانيه أي حزب أو جماعة أخرى، ويملك من الإمكانيات المادية، والبشرية، ما يؤهله لقيادة التجربة لسنوات طويلة.
كان على هؤلاء المندهشين والمتفاجئين أن يقرؤوا جيداً تجربة حركة حماس في الحركة الوطنية الفلسطينية وفي الوصول إلى الحكم وإدارته، وكان عليهم أن يدركوا مبكراً الدرس الذي استخرجه رفعت السعيد، ولكن متأخراً، حين قال ما معناه "إن الإخوان لا يظهرون ما يبطنون وإنهم يتبعون المثل القائل تمسكن حتى تتمكن".
منذ البداية كان واضحاً أن الإخوان يتمتعون ببراغماتية عالية، ولا يأبهون لما يمكن أن يقال فيهم وعنهم من قبل خصومهم، فلقد تراجعوا بسرعة عن قرارهم عدم خوض معركة الرئاسة، وتراجع الرئيس مرسي عن قراره إلغاء قرار المحكمة الدستورية بشأن عدم شرعية مجلس الشعب، الذي انعقد لوقت قصير، تأكيداً لعزم الرئيس، ثم غاب والأرجح أن يعود المجلس للعمل مرة أخرى. عندما تم إعلان فوز الرئيس مرسي، كان قد استغرق في كيل المديح للمجلس العسكري، ولجهاز القضاء، حتى ظن الكثيرون أن ثمة صفقة بين المجلس والرئيس تقضي بالمحافظة على المجلس العسكري ودوره، وعلى جهاز القضاء ورجالاته، ليتضح أن ذلك لم يكن سوى مجاملات مؤقتة اقتضاها واقع الحال في حينه، والحقيقة أنه ما كان يمكن المراهنة على أن الرئيس مرسي، سينفذ برنامج المائة يوم، وينجح في الامتحان، بالأدوات القديمة التي تناصبه العداء.
لهذا كان مفتاح النجاح يبدأ، بما أسماه البعض بتسونامي القرارات والإجراءات التي تستهدف تقريباً كل بنية القرار في معظم المؤسسات العسكرية والأمنية، والإدارية، والقضائية، والاقتصادية. وسيعلم هؤلاء المندهشون والمتفاجئون أن هذه الحكومة القائمة والتي تتكون من وزراء غالبيتهم من جماعة الإخوان المسلمين، هي حكومة مؤقتة، وأن الحكومة المقبلة ستكون بأغلبيتها من الجماعة، خاصةً إذا اتضح أن الوزراء أو بعضهم لا ينفذون بأمانة وحماسة، برنامج الرئيس.
ليس هذا وحسب، بل كان من المتوقع تماماً، أن يقدم الرئيس على اتخاذ قرار بإلغاء الإعلان الدستوري المكمل، الذي يحتفظ للمجلس العسكري بصلاحيات تشريعية، هي على حساب صلاحيات الرئيس، ولذلك كان عليه أن يستعيد صلاحية بل أن ينتزع صلاحياته، بعد أن نزع الذين أقروا ذلك الإعلان عن كراسيهم وجعلهم كعصف مأكول. المرحلة المقبلة من تسونامي الرئيس مرسي ستطيح باللجنة الدستورية، تشكيلة، وإنجازات، وسيعيد كما قال تشكيل لجنة الدستور بما يتفق مع الدور الطاغي لجماعة الإخوان المسلمين ونحو تغيير الدستور، بآخر يشكل الأساس لتغيير طبيعة الحكم في مصر، وفق مقتضيات الشريعة الإسلامية.
الرئيس بدأ عمله بقوة وحزم وسيتبع هذا النهج بوتائر سريعة، حتى لو أدى ذلك إلى استخدام العنف ضد المناوئين حين تعوزه القدرة على استخدام صلاحياته أو ما يتيحه القانون. ومن الواضح أن الرئيس مرسي، يملك كل مسوغات وأوراق القوة التي تؤهله للنجاح في تأمين قيادة الإخوان المسلمين لمصر، خلال عقود مقبلة. أولاً هو رئيس منتخب ولديه صلاحيات واسعة، تتيح له مجالاً واسعاً، لتحقيق ما يصبو من أهداف،
ثانياً، يقف خلفه حزب قوي، وعريق، قد حضر نفسه مسبقاً لإدارة البلاد، حيث يجند كل إمكانياته وكفاءاته، وجعل حكومة ظل، هي الحكومة الحقيقية التي تغطي كافة مجالات الإدارة والحكم، وتقدم للرئيس الخطة والنصيحة، والدعم الكافي.
ثالثاً ـ تفتقر المعارضة الداخلية العلمانية وغير العلمانية، للوحدة والقوة، والامتداد الشعبي الذي يمكنها من الاعتراض، أو تعطيل خطة الرئيس والجماعة، والأرجح ألا تسمح الجماعة لقوى المعارضة بأن تجمع صفوفها، أو أن تبادر إلى نشاطات من شأنها أن تعطل برنامج الرئيس والجماعة. وسيندهش هؤلاء مرة أخرى، بل مرات، حين يجدون أنفسهم، أمام نهج يؤدي إلى تغيير كل مفاصل الحكم، وتعبيرات النظام السابق، بما في ذلك الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني ورجالات القطاع الخاص، أما أعلام النظام السابق، فسيتحولون إلى مجرد تروس أو حتى براغ في آلة الحكم الإسلامي. إن على هؤلاء أن يعلموا أن الرئيس مرسي يقود المرحلة الثانية من الثورة المصرية.
رابعاً ـ من الواضح أن الولايات المتحدة، راضية عن تسيّد الإخوان المسلمين نظام الحكم، وأنها مستعدة للتعاون وتقديم التسهيلات اللازمة لنجاحهم، طالما أنهم لا يغيرون من قواعد اللعبة السياسية، ولا يفكرون في الإطاحة بالأسس والقواعد التي تبنى عليها مصالح الأطراف الخارجية الأساسية، التي تتأثر بطبيعة الحكم في مصر، أو بالإطاحة بالاتفاقيات التي حكمت مصر خلال المرحلة السابقة، بما في ذلك وأساساً اتفاقية (كامب ديفيد).
هكذا تحولت جريمة العملية الإرهابية ضد الجنود المصريين في سيناء رغم آلامها، إلى هبة من السماء، لكن تلك العملية الإجرامية، أدت إلى تسريع الإجراءات الرئاسية، لكن هذه الإجراءات والقرارات كانت ستقع في كل الأحوال. الفلسطينيون ليسوا بمنأى عن أجندة الرئيس مرسي وجماعة الإخوان المسلمين، والأرجح أن لا تتأخر القرارات التي ستغير واقع حال العلاقة بين قطاع غزة ومصر، لجهة الانفراج، أما القضية والأهداف الوطنية والمصالحة، فستظل معلقة بالأساس في رقاب أهلها، الذين يعصف بهم وبها تسونامي الانقسام والفرقة والصراع. ينبغي أن يكون واضحاً، أن تمكن الإخوان المسلمين من الحكم في مصر الكبيرة وقائدة الأمة العربية، سيشكل بداية حقبة طويلة من حكم جماعات الإسلام السياسي في معظم البلدان العربية، خصوصاً التي تعيش ظواهر الانتفاضات التغييرية، وأن التاريخ لا يمنح فرصاً للضعفاء والمترددين، وأنه يفتح ذراعيه فقط للأقوياء، ولا مجال فيه للصدق أو لمن يمارسون رفاهية العمل السياسي، دون أن يكونوا مستعدين لدفع الثمن المطلوب لتحقيق أهدافهم.