في بقعة من هذا العالم

كان موعدي، في عطلة نهاية الأسبوع، وأثناء إجازة العاملين في المصحات، مع زيارة مزدوجة الى أعماق القوقاز: مدينة نالتشيك، عاصمة جمهورية، ضمن الفيدرالية الروسية، لم أسمع باسمها من قبل، وهي «كبردينوـ بلقاريا» الشركسية ذات الأغلبية المسلمة. وترقد هذه الجمهورية في زاوية بين حدودي الشيشان وجورجيا، في أعالي جبال القوقاز. فيها جبل «إلبروس» ذو القمة المغطاة بالثلوج على مدار العام، وهي قمة ذات رسم مميز، وضعته الجمهورية في منتصف علمها الوطني. وهذه المعلومات وغيرها، لخصها لنا «محمد» مدير العلاقات في مطار نالتشيك، الذي كانت زيارتي له، في الشق الثاني من الرحلة! قبل الوصول الى نالتشيك، وسط جو شتوي ماطر دونما برودة شديدة؛ مررنا بمدينة الجبال الخمسة وهي بالروسية «بياتي قورسك» حيثما تستجمع الطبيعة الجبلية كل عبقريتها، وتسري في هضابها قطعان هائلة من الأبقار تغطي الأفق. أما المدينة، فتحتضن عدداً كبيراً من المعاهد العلمية التي اشتهر من بينها على مستوى روسيا معهدا الصيدلة واللغات.

وعلى الرغم من وفرة الزراعة والوفرة الإغراقية للمياه، فإن مدينة الجبال الخمسة، تعد مركزاً صناعياً كبيراً. وفي مواضع كثيرة على الطريق، اصطفت بسطات بيع الفاكهة والعسل والأجبان والأشغال اليدوية والفخارية ومشغولات كان بعضها عندنا ثم انقرض، كالمكنسة الفاخرة، من أعواد نباتية أذكر اننا كنا نسميها «مكنسة الرز» التي تنحني السيدات وهن يكنسن بها.

تذكرت المرحومة الحاجة أم عدلي التي ارسلتني مرات ومرات لشراء المكنسة ودعوت لها بواسع الرحمة. ومع الوصول الى بوابة نالتشيك، ومن ثم الى مطارها، ومعنا من يمتلك مبنى المطار مع برج المراقبة (المهبط وحده للحكومة) وآخر يمتلك طائرات مستعملة وأخرى جاهزة للتشغيل، معروضة للبيع؛ توقفنا لبعض الوقت تحت المطر الخفيف. عند البوابة كان هناك محل بقالة بجوار مبنى سكني، شاهدنا فتيات صغيرات يبتعن بعض لوازم الطهي، يعتمرن الحجاب نفسه الذي تظهر فيه بناتنا الفتيات في فلسطين وسواها.

توقفنا عند محل البقالة، لكي يمر موكب نائب رئيس الوزراء الروسي الذي تصادف وصوله في زيارة للجمهورية. وسرعان ما فهمنا، أن زيارتنا تتداخل مع مواعيد لمهتمين بشراء طائرات قديمة تحتاج الى صيانة، من السمتيات وطائرات الركاب. كأنه مزاد للطائرات. فالمقبلون للمعاينة والمفاصلة، يبتاعون الطائرات القديمة غير الجاهزة للتشغيل، ومعظمها مروحيات، ويتكفلون بتغطية نفقات صيانتها ومن ثم يبيعونها أو يؤجرونها. ومن أطرف ما قاله مالك طائرة الركاب الجاهزة من طراز ياك 42 (تتسع لـنحو 120 راكباً في درجتين) أنه اشترى ذات يوم من مخزن وزارة الدفاع، طائرة ميغ 25 باعتبارها خردة، وتكفل بنفقات صيانتها وتجديدها، ومن ثم ترخيصها وتشغيلها عن طريق مؤسسات مدنية، دون تسليح طبعاً، بمحرك مستعمل لكنه في حالة جيدة، وكان تخصيصها لسباقات ومهرجانات استعراضية ورياضية. بدأنا في معاينة احدى الطائرات المرخصة والجاهزة.

يقول صاحبها إنها تحتاج الى نصف مليون دولار لكي تخرج جديدة من حيث الفرش والطلاء وتجديد مرافق الكابينة. وكان حاضراً أحد من يتفقدون الطائرة لصالح بلد إفريقي، فسألت إن كان الأمر يجري على قاعدة تقبل أو استسهال وقوع حوادث تحطم الطائرات في أعماق إفريقيا، فأقسم صاحب الطائرة أنها أكثر أماناً من البوينغ، وزاد شارحاً بأن ياك 42 مصممة للهبوط عند الاقتضاء، على مدرجات غير معبدة، وأنها الخيار الأفضل للدول الفقيرة التي لم تنشئ بُنية تحتية للنقل الجوي. لكن سعر الطائرة المطلوب، أبقى على تخوفي من الطائرة بسبب ضآلته. فهو مليونا دولار قبل المفاصلة. قلت للمالك على سبيل التقصي الصحفي، لو عثرت لك على مشترٍ، فستكون راضياً لأنني لست من متعاطي العمولات.

أجاب سريعاً: لا بد من عمولة، وفي هذه الحالة سأبتني مسجداً صغيراً بدلها، لأننا هنا معتنقون لمبدأ العمولة. كان طريفاً وإن كان يتحدث بجدية، فمضيت معه في الحديث مازحاً: «لكي يصلي المؤمنون في المسجد، صلاة الغائب، على أرواح الضحايا من الركاب» فاستشاط غضباً وقال: «لست متعهد موت. فأنا من عشاق الحياة لنفسي وللآخرين».

وأضاف كمن يُشفي غليله: «عندكم يصل سعرها لجهة الشراء الأخيرة، وهي مؤسسة الشعب، الى خمسة ملايين أو أكثر»! في تلك الأثناء، خطرت فكرة على سبيل الدعابة، وهي عرض الطائرة على رجل أنفاق مقتدر، من غزة، لكي يبتاعها ويؤجرها، وسيكون ذلك متاحاً لأن الطائرة مرخصة. فهناك أربع من مثيلاتها تباع الآن، لبلد عربي أفريقي، للتشغيل على خطوطه الجوية! الفقرة الثانية من زيارة المطار، كانت هي الأهم بالنسبة لي. فهناك عدد من المربعات، أحدها مقبرة طائرات قديمة، تقف فيها هياكل كاملة لطائرات راحلة منذ أواخر الأربعينيات. وفي مربع آخر، يقوم متحف طائرات خالدة الذكر، رأيت فيها طائرة تنام مهملة، عرفتها منذ النظرة الأولى، وهي من طراز ميغ 15 باكورة السلسلة المعروفة التي ابتكرها أرمني روسي مستفيداً من طراز طائرة أميركية سُرقت من البرازيل. قال لي مالك المطار: هذه الطائرة أسقطت طائرة أميركية في الحرب الكورية في العام 1950 وأهداها ستالين للطيار ابن المدينة، الذي أحالها بدوره الى المطار.

وفي أيام الاتحاد السوفياتي ظلت الطائرة تلقى العناية ويُجدد طلاؤها، ويلتقط الزائرون الصور عندها. وفي موضع آخر، هناك طائرة هليوكبتر من متقدمات سلسلة طائرات «مي» المروحية الروسية. كانت تلك قد طارت ثلاثين سنة، منذ العام 1953 أنقذت خلالها محاصرين في الجبال وسط الثلوج، ولما تقاعدت وُضعت مع سجلها أو الـ cv في متحف المطار. وفي مستطيل ثالث، تصطف مجموعة من الطائرات المروحية التي تحتاج كل واحدة منها الى «سنفرة» ما عدا محركها المحفوظ في صندوق كبير خلفها. ويقول مدير المطار إن تكلفة الصيانة لا تزيد عن عشرة آلاف دولار، يشتريها المعنيون بالتشغيل لأغراض مدنية من بينها السياحة ورش المحاصيل، والنقل شتاء بين القرى القابعة في الجبال.

وفي المربع الأخير، وهو سجن توقيف الطائرات، توجد فيه طائرات مختلفة الأحجام، مختومة أبوابها بالشمع الأحمر، لأسباب تتعلق برسوم أو مستحقات مالية! لم تكن الزيارة مرتبة أو متوقعة. كان الطبيب جراح الوجه والفكين محمد شكشك قد تصادق مع رجل الأعمال صاحب العلاقة بالموضوع، بعد أن أجرى له جراحة في المشفى المركزي. ومحمد هذا، كان يأمل في وظيفة في وطنه. صبر ولم ينلها، وفي الأخير، جرب حظه مع الحكومة الحمساوية، إذ تقدم لاختبار وحصل على المركز الأول، وسلموه كتاب التعيين. خرج من سراي الحكومة متوجهاً الى المستشفى، لتحدث المفارقة: وظيفة استمرت عشر دقائق. فأثناء توجهه الى مكان العمل، تلقى مكالمة تقول له «إنسَ الموضوع، كان التعيين بالخطأ».

وعرف لاحقاً أن الوظيفة أعطيت لمتخرج حمساوي جديد قبل أن يتسلم شهادة التخرج. شعر بالذهول والصدمة، وأرسل الوسطاء لكي يلتمسوا من «الربانيين» اعطاء هذه الفرصة لطبيب جيد، فكان الجواب «هذا فتحاوي، خلوا حكومة رام الله توظفه». الشاب يرفض الآن أن يقال عن حكومة غزة بأنها نظام حكم يتلطى بالدين. يقول هو حكم لا علماني ولا ديني. إنه حكم كيدي، لأن الدين فيه إحساس بمصلحة الناس. وفعلاً، كان الرسول عليه السلام يُجيز الاستعانة بغير مسلمين أو بمنافقين حتى في الجهاد وهو الأخطر من الطب. ويعمل الطبيب الفلسطيني الآن، في المشفى المركزي للولاية ويعالج الروس الذين أعطوه جنسية بلادهم! ليس ثمة حيثيات سياسية في هذه السطور. إنها من نوع التسلية في الصيام لمن يكتب، وآمل أن تكون كذلك لمن يقرأ، وفيها إلقاء بعض الضوء على بقعة من هذا العالم!