العملية غيرت الفرنسيين... فهم يقفون حدادا على أنفسهم وعلى قيمهم أكثر من حدادهم على قتلى العملية

مظاهرة باريس

باريس في السواد
بقلم ناحوم برنياع

باريس. حداد وطني يمر على فرنسا منذ العمليات الارهابية الاسبوع الماضي. المشهد فريد من نوعه. كنت في نيويورك غداة عمليات ايلول 2001. هذا كان مشابها ولكنه مختلف؛ غطيت حدادنا على اغتيال رابين في 1995. هذا كان مشابها ولكنه مختلف. لقد صدم الامريكيون حتى أعماق روحهم عندما اكتشفوا بانهم غير محصنين من الارهاب. البرجان التوأمان، رمز القوة الامريكية، انهارا امام ناظريهم. لقد خرجوا للانتقام بالدم والنار: ضد بن لادن، طالبان، صدام حسين. وامتلأت المدن الكبرى في أمريكا بجنود الحرس الوطني بكل عتادهم. وقد بدوا وكأنهم في أرض محتلة.
اما الاسرائيليون فقد اختاروا عن أي رابين يريدون ان يقيموا الحداد ـ كل واحد وأفكاره، كل واحد وحزبه. وسرعان ما تحول الغضب إلى بكاء، والنار الكبرى ـ إلى شموع.

أما الفرنسيون فيحدون بشكل مختلف. امس اجتمع العشرات ـ وربما المئات ـ في مظاهرة عفوية في الميادين في المدن الفرنسية. كان تواجد مكثف في الاماكن العامة لرجال الدرك، ولكن باريس واصلت تعيش حياتها. وهي لم تحتل.
الالاف جاءوا لكل الميادين. صمتوا على مدى ساعة وذهبوا إلى البيوت. والحداد سيبلغ ذروته اليوم في المظاهرة في باريس، التي يفترض بها أن تكون اكبر المظاهرات التي تشهدها فرنسا. اكبر من مظاهرات الطلاب في 1968، أكبر من المظاهرة التي سجلت الانتصار على المانيا في نهاية الحرب العالمية الثانية، أكبر من الانقضاض على سجن الباستيل في 1789، والذي بشر بالثورة الفرنسية. وليس صدفة أن اختارت الحكومة الفرنسية بدء المظاهرة اليوم في ميدان الباستيل.

في هذه المرحلة هم يحدون بوقفة صمت. لا يبكون، لا يحتجون، فقط يرفعون يافطات تحمل اسماء المغدورين مضافا اليها كلمة «أنا». تحدثت امس مع موظف كبير في الحكومة الفرنسية، شخص يتابع عن كثب مواجهة فرنسا مع الارهاب. طلبت أن يشرح لي ـ أنا الضيف للحظة ـ رد فعل أبناء شعبه. قال: «هم مصدومون. ما أذهلني هو حجم التضامن، عمق المشاعر. فهذا ليس الـ 17 الذين قتلوا، بل القيم التي قتلت، المسلمات التي تبنى عليها الحياة هنا. معظم الفرنسيين لم يقرأوا أبدا المجلة الساخرة «شارلي ايبدو» مشكوك أن يكونوا سمعوا عنها، ولكن القتل اصاب اصابة قاتلة الثقة التي لهم بنمط حياتهم. انت تعرف جيدا، قلت، الطريقة التي رد فيها الاسرائيليون على عمليات الارهاب. ما الفرق؟

قال: «فارقان. وكلاهما يجعلان العمليات في فرنسا أخطر. في اسرائيل ارهاب الانتحاريين كان أعمى: هاجم دون تمييز؛ الهجمات على الصحيفة وعلى السوبرماركت اليهودي كانت مقصودة. والاساس: انتم واجهتم الارهاب الذي جاء من الخارج؛ هذا صحيح ايضا بالنسبة للامريكيين؛ أما الارهاب في فرنسا فجاء من الداخل. المنفذون هم مواطنون فرنسيون، ولدوا أو تربوا هنا، يتكلمون الفرنسية النقية، وهم جزء من المجتمع الفرنسي. هذا صعب. عندما يستيقظ الفرنسيون من الصدمة سيسألون كيف ربيناهم؛ بعض منهم سيطالب بالفصل على اساس ديني او عرقي ـ اخراج المسلمين من المجتمع الفرنسي. وهذه ستكون فرنسا أخرى». 

هذه الجمل بحاجة إلى ايضاح. فرنسا تؤمن بتفوق ثقافتها، بقدسية اللغة الفرنسية، بعدالة العلمانية الفرنسية. في كل دولة حكمتها فرنسا فرضت ثقافتها على السكان المحليين. من هاجر إلى فرنسا كان يمكنه أن يصبح فرنسيا عاديا فقط اذا ما اتقن اللغة، الثقافة، التاريخ الفرنسي. لقد آمن الفرنسيون ـ مثل آباء حركة العمل عندنا ـ بأتون الصهر. تعدد الثقافات، الذي اصبح موضة في أمريكا، غريب عليهم. ليست لديهم صعوبة في منع النساء من اعتمار الحجاب، والشعور بانهم تقدميون وليبراليون. المسلمون يعدون اليوم نحو 8 في المئة من السكان، ومعدلهم يزداد من سنة إلى سنة. قسم كبير منهم يرفض ان يستوعب الثقافة الفرنسية؛ القيم العلمانية غير مقبولة من جانبه. وهو مظلوم اقتصاديا واجتماعيا. في الهوامش تجده يدمن الأصولي والارهاب.

هل ستتمكن فرنسا من أن تبقى فرنسا؟ هذا هو السؤال الذي يزعج الكثير من الفرنسيين اليوم. فهل هذا يشرح حجم الحداد الوطني؟ اليهود هم لاعب فرعي في هذه القصة. لا يحد الفرنسيون على اربعة يهود قتلى، بل يحدون على أنفسهم.

لليهود مكان يذهبون إليه

في كنس عديدة في باريس لم تجر أمس صلوات السبت. فقد ألم الخوف بالمصلين. وعلى مسافة اقل من مئتي متر من السوبرماركت الذي تعرض للاعتداء تعمل ثلاثة كنس: واحد مغربي، واسمه «هتكفا» (الأمل)، واحد سفرادي (شرقي) وواحد اشكنازي (غربي). وقررت الكنس الثلاثة بانها لن تستسلم للارهاب، والصلوات ستجري كالمعتاد. رجال الدرك، الشرطة ـ الجنود مثل حرس الحدود عندنا، أغلقوا قاطع الشارع بشريط أحمر ـ أبيض، مثلما في ساحة عملية. وقد كانوا مسلحين بالبنادق. رجال الامن الذين استأجرتهم الطائفة استعرضوا تواجدهم. كل حركة في الشارع كانت تجعلهم يقفزون.

حاييم، شماس الكنيس المغربي، بكر في المجيء. المبنى، الذي يشكل ايضا مدرسة يهودية، كان مظلما. وقد طلب من أحد افراد الشرطة أن يكون بالنسبة له غريبا يساعده في اشعال الاضواء في يوم السبت. لم يفهم الشرطي الامر. ولكنه ضغط دون صعوبة على كل الازرار. وفي الساعة المعدة لصلاة الفجر يوم السبت كان تواجد الجمهور طفيفا. في الكنيس الاشكنازي كان تسعة مصلين فقط. تطوعت لان أكون العاشر في العدد، حتى مجيء التعزيزات. ولكن في غضون ساعة كانت القاعة مليئة. «في السبت العادي يلعب الاولاد في الشارع»، قال أحد المصلين. «الان محظور. هذا لم يعد نفس الشيء».

«انا لا اخاف»، هتف احد المصلين في الشارع. اما مصل آخر فقال بهدوء: «خفت وتغلبت».

«كانت معجزة كبرى»، قال حاييم بيبي، أب لخمسة، والسادس على الطريق. منذ أن تاب بيبي وهو يؤمن بالمعجزات. له عينان زرقاوان بريئتان وجسم كبير، دُبي. اي معجزة هذه، سألته، حين يموت الأبرياء. «تخيل أن يصل المخربون إلى المدرسة اليهودية»، قال. «كانوا سيقتلون مئتي طفل. هناك فوق احد ما يحرص علينا».
بكّر في الوصول إلى الصلاة صاحب البقالة التي تقع خلف السوبرماركت الذي تعرض للاعتداء. وهو من مواليد المغرب. «هناك مسلمون وهناك مسلمون آخرون»، يقول. «المغاربة على ما يرام. يقدمون لنا الاحترام. التونسيون هم ايضا على ما يرام. اما الجزائريون فمشكلة كبيرة. يعتقدون أن فرنسا تعود لهم».

وقال: «نحن اليهود يوجد لنا مكان نذهب اليه. فالى اين سيذهب المسلمون، هل سيعودون إلى الجزائر؟».

عرضت عليه السؤال المتوقع جدا. «الهجرة إلى البلاد صعبة»، قال. «الاعمال هنا. ولكني اشتريت شقة في نتانيا».

ذات السؤال طرح في حديث مع الحاخام كابيتس، احد الحاخامين البارزين في الطوائل السفرادية – الشرقية. جوابه كان مظفرا: «الى اسرائيل يهاجر المرء. إلى اسرائيل لا يهرب».
في كل حديث طرح السؤال لماذا تسمح الحكومة للمسلمين الذين سافروا إلى العراق، إلى سوريا او إلى اليمن العودة إلى فرنسا. يوجد 1.200 مواطن فرنسي كان لهم اتصال ما مع منظمات ارهابة اسلامية. بعضهم لم يعد إلى فرنسا. البعض الآخر عاد وبدأ حياة جديدة. فقط قلة صغيرة تجندت للعمل في فرنسا بتكليف من المنظمة أو بتكليف ذاتي. القانون الفرنسي لا يسمح للحكومة بان ترفض ادخالهم إلى فرنسا. يمكن ان تطرد فقط اولئك الذين ليس لهم جنسية.

ولكن هذا لا يهم اليهود في الكنس. فهم غاضبون على ما يفسرونه كانهزامية من اليسار. «الافضل هي ماريت لوبان»، قال مصل عجوز في الكنيس الاشكنازي. ولكن أباها ينكر الكارثة، احتججت. الرجل، ناج من الكارثة هز كتفيه. «كان هذا قبل أربعين سنة»، قال. «ما يهمني هو الغد».

اسرائيل ليست جزءا من القصة

في اسرائيل ينظفون ساحة العملية كلها في غضون ساعة. والعجلة هي جزء من المواجهة، رفض الاسرائيليين الغرق في الكرب. اما في فرنسا فلا يسرعون. المحلات في المبنى مغلقة، السيارات في مواقفها مركونة، على الرصيف عبر الطريق تتراكم الورود المغلفة بالسولفان. نساء ورجال يتوجهون عن قصد تام نحو الكومة، ويضعون وردة. هذا جميل جدا، حزن جدا ويائس.

مراسلة «يديعوت احرونوت» في باريس ليئور زلبرشتاين وأنا نسمع شهادات الناجين. شابان يدخنان السجائر خارج السوبرماركت لاحظا المخربين واستدعيا الشرطة. وهما يقفان لساعات قرب ساحة العملية، ولا يعرفان روحيهما. عينا أحدهما حمروان والثاني متوتر. وهما لا يريدان أن يبقيا هناك ولا يمكنهما أن يذهبا.

قبل المساء التأمت امام السوبرماركت مظهرة، وللدقة وردية حداد. ومنحت المنظمات اليهودية المظاهرة رعايتها، ووصل الالاف في البرد وفي المطر. اسماء القتلى مكتوبة على اليافطات. «انا يوهن كوهين»، «انا يهودي»، «انا الجمهورية»، «قتلوني لأني يهودي»، ومن حين إلى حين حاولت مجموعة في الجمهور انشاد المارسييز، النشيد الوطني. الجمهور لم ينجرف وراءه. واحد آخر حاول «هتكفا». وبقي وحده.

في هوامش المظاهرة برز خلاف بين شاب يهودي يميني وامرأة يهودية يسارية. فقد طلب قتل المسلمين، طردهم، اعتقالهم، وهي أهانته. فصرخ. وصرخت. بعد ذلك انضمت أمرأة صرخت: المشكلة هي أنهم لا يفعلون شيئا. نحن نُقتل وهم لا يهمهم.

«هم مجانين»، قالت المرأة اليسارية. «هم بصعوبة مئتي شخص، ولكنهم يتصرفون وكأنهم الأغلبية».
«هل لاحظت انه لا توجد أعلام في المظاهرة»، قال لي، «لا أعلام فرنسا ولا أعلام اسرائيل».
حقا لماذا؟ سألت.
«إسرائيل ليست جزءا من القصة»، قالت.
رويت لها أن نتنياهو، ليبرمان وبينيت سيأتون للمظاهرة اليوم. «انت تضحك علي»، قالت. «ما هو شأنهم».

يديعوت

حرره: 
س.ع