سميح القاسم ورماد الذاكرة
بقلم: محمود شريح
سميح القاسم المولود في الزرقاء الأردنية في سنة 1939 لأب من بلدة الرامة في جليل فلسطين، أسهم في تحرير مجلة «الغد» وجريدة «الاتحاد» في فلسطين، ورئيس تحرير مجلة «هذا العالم»، وأسس منشورات «عربسك» في حيفا، وأدار «المؤسسة الشعبية للفنون» ورئس «اتحاد الكتاب العرب» و«الاتحاد العام للكتاب العرب الفلسطينيين في إسرائيل»، وحصل مرتين على «وسام القدس» من الرئيس ياسر عرفات، وها هو يدوّن سيرته الذاتية كي تكون محاولة لترميم صور الذاكرة القديمة بالأبيض والأسود.
في البدء ألحقه والداه بمدرسة دير اللاتين الابتدائية في الرامة، ثم بكلية تيراسانطة في الناصرة، وسكن في حي الروم. وفي سنة 1958 أصدر مجموعته الشعرية الأولى «مواكب الشمس»، وكان معلماً في قرى عين الأسد وساجور ونحف ودالية الكرمل قبل أن ينتقل إلى مكاتب «الاتحاد» في حيفا مع إميل توما وصليبا خميس وعلي عاشور ومحمد خاصّ وعصام العباسي ومحمود درويش.
في سجن الدامون، جراء مواقفه من إسرائيل، انضم إلى الحزب الشيوعي، وفي سنة 1969 كان مع محمود درويش في مهرجان الشباب العالمي في صوفيا، فإلى موسكو في سنة 1971 لدراسة الفلسفة والتاريخ والاقتصاد السياسي في المعهد الحزبي الشهير.
******
سميح القاسم هو صاحب القصيدة التي لحنها وغنّاها مارسيل خليفة، والتي يقول مطلعها:
مُنتصب القامة أمشي
مرفوع الهامة أمشي
في كفي قصفة زيتون
وعلى كتفي نعشي
وأنا أمشي أمشي أمشي.
في 22/10/2004 كتب سميح القاسم: «في البدء كان الكلمة وللختام الكلمة. وما الجسد إلا منفضة لرماد نار الشعر وما الشعر إلا منفضة لرماد نار الحياة وما الحياة الدنيا إلا منفضة لرماد نار الجسد. منفضة. انها مجرّد منفضة». وهكذا حملت سيرته العنوان «إنها مجرّد منفضة».
النيونكبويون
م. ش.
كلما دقّ كوز النكبة الذائعة الصيت بجرة سايكس ـ بيكو المرذولة تاريخياً تنادى «جهابذة» الفكر الفلسطيني إلى لقاء نياح عن مُلك ضاع، ونعقوا كغربان البين وبوم القاع الصفصف، فذكّروا أهالي مخيمات النزوح ببؤسهم السرمدي، وزيّنوا لهم، بمفاتيح صدئت، أن البيّارات راجعة، وان القرى المندثرة عائدة، فآمن بهم هؤلاء المعدمون المتشبثون بحبال الهواء والجالسون على قبض ريح، فهم لطيبتهم وأحياناً لبراءتهم يجهلون ان النيونكبويين في كل حفل يقيمون الدنيا ولا يقعدونها بتحويل نكبة 1948 إلى طقس جنائزي وخطاب ميتافيزيقي، فيغيب عن بال هؤلاء الساكنين في أتون النزوح ان زعماءهم أنفسهم هم مَن دفعوا من قبل ببروليتاريا المخيمات إلى جحيم الصراع، فيما ينعم النكبويون الجدد بأسوار ثقافية منيعة، وها هي أدبياتهم شاهد على بطر زائل فيما سكّان أكواخ الصفيح يكتوون كتنّور... إن بياض شعر بعض «الجهابذة» لا يعني الحكمة أو الوقار، بل يشير، في معظم الأحيان، إلى ضحالة فكرية وعفونة ثقافية ورداءة سلوكية.
أمس مرّت الذكرى الخامسة والستّون لنكبة فلسطين، فكأنها اليوم وبعد شهر لم تكن، فالبكاء والعويل والخطب الرنّانة والكرنفال الطنّان حجب حجم المأساة البادية على وجوه فلسطينيي الوطن والشتات.
في الخمسينيات والستينيات انبرى غوغائيو البرجوازية الفلسطينية للمناداة بتحرير فلسطين من ملعب بيروت البلدي ثم انتقلوا في السبعينيات والثمانينيات إلى سينمات شارع الحمرا، ومؤخراً إلى الصحف والتلفزيون، فكأن مسألة فلسطين قصّة إبريق الزيت أو الكيمياء التي قالوا ولم تصب، وها هو الفكر النيونكبوي ينهض على مقولات تافهة مدماكها الرياء والنفاق من جهة والتلاعب بمصائر سكان المخيمات من جهة ثانية، وها هي هذه البرجوازية تحوّل نكبة 1948 إلى مهرجان سنوي.
فيا أيها النكبويون الجدد خيّطوا بغير هذه المسلّة فقد صدئت، وفي فلسطين السليبة تزدهر فراديس الاحتلال وفي الشتات يهوي جيل اثر جيل في أنظمة تتهاوى في صحاري جرداء.
م. ش.
يردّنا القاسم إلى رسائله المتبادلة مع محمود درويش والتي أطلق عليها محمد علي طه عنوان «رسائل بين شطري البرتقالة» أيام كانت تنشر في صحيفة «اليوم السابع» وصحيفة «الاتحاد» الحيفاوية.
يروي القاسم انه أهدى نجيب محفوظ قطعة شعرية بعنوان «إرم» في العام 1965 فوصلته هدية عبر جريدة «الاتحاد» التي كان يطلبها الرئيس جمال عبد الناصر ليقرأها، بينما كان يكتفي من الصحف الأخرى بالملخصات. وحين عانقه نجيب محفوظ في القاهرة قال له مداعباً: «نحن أصحاب من سنين طويلة. من سنين طويلة. من أيام هديتك الشعرية».
******
جاءته «جائزة فلسطين للشعر»، وكان عليه أن يلقي كلمة برعاية الرئيس ياسر عرفات أمام الجمهور المحتشد في حرم جامعة بيت لحم، وكان الناس آنذاك مكتنزين بالغضب على بعض مظاهر الفساد في السلطة الوطنية الفلسطينية.
ومن منطلق الإحساس بالمسؤولية والتزاماً الصدق في حضرة الشعب وفي حضرة القائد معاً، قال القاسم: «والله يا أبا عمار لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بأقلامنا!». ودوّت القاعة بالتصفيق بالتذمر، وفهم أبو عمار الإشارة فوقف هاتفاً: «يا محمد هات المسدس». وتسمرت العيون على المنصة، فالبعض اعتقد ان الرئيس عرفات سيطلق الرصاص على سميح القاسم. وحين أحضر محمد الداية، الحارس الشخصي لياسر عرفات المسدس، دنا أبو عمار من سميح القاسم قائلاً: «لا يا خويا سميح. إذا رأيت فيّ اعوجاجاً فقوّمه بمسدسي هذا، لا بالقلم». ودوّت القاعة بالتصفيق. وجاءت كلمة القاسم الأخيرة: «لا يا أخي الرئيس، المسدس يوجه إلى الاحتلال».
******
هذه هي السيرة الناقصة لسميح القاسم الشاعر الذي وحّد بين واقعه القومي وواقع الإنسان الفلسطيني، فنزع عن قوميته إطارها الضيّق وجعل ما يعانيه الإنسان العربي فيها ضوءاً لمعاناة الإنسان عامة. فالشاعر بارع منذ بداياته في اقتناص الواجهة المثيرة لبنائه الفني، بحيث يشد إلى الحدث الذي يبدأ بصورة مفاجئة جميع العيون والجوارح، فهو، لا ريب، شاعر المواقف الدرامية وشاعر الصراع. وكثيراً ما تلاعب بالحروف الزاخرة بالإيحاءات في الأدب الفلسطيني. نبرته صيّاحة كأنها صادرة عن مارد سجن في قمقم.
أما في سيرته الموسومة بعنوان «إنها مجرّد منفضة» فالقاسم يستدعي موطن الطفولة ومرافئ الضوء، في أسلوب غنائي ينسج هدوءاً خاصاً مميزاً، فيما لا تغيب عنه كثافة الضوء وعمق الحنين. ولعل سميح القاسم كتب هذه السيرة بعدما لم يبق له إلا القليل من الحبر، وبعدما صارع الاحتلال والمرض طويلاً، وظل دائماً صاحب الموقف القومي الشجاع، وصاحب الرأي الذي لا يلين.
صدرت هذه السيرة عن دار «راية للنشر» في حيفا في سنة 2011.