بقلم: راشد عيسى
لم يتجرأ أحد على إدانة الفلسطينيين بقدر ما فعل الأديب الفلسطيني غسان كنفاني، فبعد تلك الصيحة التي تردّدت أصداؤها زمناً في أرجاء الصحراء العربية، حين ألقى أبو الخيزران بجثث ثلاثة فلسطينيين هاربين عبر حدود الكويت فوق المزبلة مقرعاً إياهم: "لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟"، جاءت "عائد إلى حيفا"، الرواية التي كتبت إثر نكسة العام 1967 محملة هذه المرة بمرارة هزيمتين، نكبة العام 1948، وحرب ال 67 التي كان من نتائجها أن البلاد توحدت من جديد، ولكن تحت راية الاحتلال الإسرائيلي، فصار بإمكان فلسطينيي الـ67 أن يتجولوا في أراضي 1948 وكانت تلك الرغبة العارمة بأن يرى المبعدون عن بيوتهم ماذا حلّ بها.
هكذا عاد سعيد بصحبة صفية إلى بيتهما في حيفا، يحدوهما أمل أن يعثرا على ولدهما المتروك هناك، حيث أجبرا على ترك المنزل دونه، وقد باءت كل محاولاتهما لاسترجاعه بالفشل. لن يطول الأمر بالزوجين حتى يلتقيا ولدهما خلدون، الذي بات الآن دوف الجندي في الجيش الإسرائيلي، والذي يعرف حقيقة أنه ولد لعائلة عربية، وهنا بالضبط يدور النقاش الذي تتمحور حوله الرواية كلها. يروح دوف يقرّع أبويه بلا رحمة، كيف تركاه هناك، "كان يجب أن تموتوا هنا"، "أنتم جبناء". الإنسان ليس هذا اللحم والدم، إنه قضية، ما يعبأ به ساعة إثر ساعة، يوماً إثر يوم. الجدل سيحسم في النهاية، حتى الأم امتلكت قوتها لتقول لدوف: "أن نكون جبناء لا يسوّغ لكم أن تفعلوا كل هذا"، فيما يقرر الزوج "لن نطالبكم بإعادة هذا البيت، فالمسألة تحتاج إلى حرب". ويتمنى سعيد بعد هذه "التجربة التفاوضية" أن يكون ولده الصغير خالد قد التحق بمعسكرات الفدائيين، هو الذي كان ينهاه مراراً عن فعل ذلك. إدانة كنفاني لشعبه إذاً لم تكن مجرد صرخة غضب وتقريع وكفى، كان غسان يريد لشعبه أن يذهب بكليته إلى معسكرات الفدائيين، وقد كان هو نموذجاً لذلك.
لم يحد عرض المخرجة اللبنانية لينا أبيض، الذي افتتح أخيراً لمناسبة ذكرى النكسة (قدم المرة الأولى العام 2010)، عن مقولات الرواية وأجوائها. سوى أن العرض بدا وكأنه يقدم غداة الخامس من حزيران 1967، أي قبل نحو أربعين عاماً، من دون النظر إلى مستجدات اللحظة الراهنة، التي يمكن لها أن تفتح أسئلة جديدة، وحساباً جديداً حول هزائمنا وهل أننا سمعنا كلام كنفاني، بصوت بطل الرواية سعيد وهو يقول لدوف الإسرائيلي ما معناه أنكم منتصرون لأننا نخطئ، وأننا لن نستمر في الخطأ. لكننا في الحقيقية، كفلسطينيين ما زلنا نخطئ، وما زال الاحتلال مستمراً، ما يتطلب كلاماً آخر، ولو كان غسان هنا لمَسْرَحَ روايته على نحو آخر.
لا شك أن المخرجة أبيض تمكنت من أن تنقل الرواية كلها إلى الخشبة، حيث أزمانها موجودة في وقت واحد: سيارة على الطريق من الضفة إلى حيفا وبوسعنا عبرها أن نتخيل الطريق، وأجواء العام 1948 من خلال المكان، البيت الذي احتفظ بهيئته وتفاصيله نفسها تقريبا، من دهان البيت، إلى صندوق عرس قديم، إلى ماكينة الخياطة، الستائر، ريشات الطاووس على الطاولة،.. وكان الحدث يتنقل بسهولة بين تلك الأزمنة. غير ان وجود ممثليْن على هيئة عروسين، هما سعيد وصفية في شبابهما، بدا غير ضروري، ومربكاً بعض الشيء، كوجود ذلك الطفل الذي يحمل ريشات الطاووس ويحوم في المكان، كما لو أنه شبح طفل.
كذلك يمكن القول إن العرض نحا إلى حد ما باتجاه لغة الحماسة، كذلك فعل في تغليب حضور سعيد وقوة منطقه على منطق الإسرائيلي دوف، في حين يتمتع الأخير في الرواية بلغة متوازنة ومثقفة ومقنعة، لكن العرض اختار أن يقدم الصورة النمطية للجندي الإسرائيلي، الفظ، الكريه، ومن أجل أن يزيد المسافة بيننا، كجمهور، وبين دوف، شخصيته ومنطقه جعله يتحدث بخليط من الانكليزية والعبرية بأسلوب غير محبب. لم يترك العرض الأمر للحوار وحسب، فحين اختار سعيد الحرب ألبس شخصياته على الفور كوفيات فلسطينية، فجأة صرنا أمام لغة صارخة، لم يتردد الجمهور في التصفيق لها. هكذا أراد العرض لنفسه أن يذهب إلى الحماسة تارة، وإلى لغة العواطف تارة أخرى، التي تريد أن تحتفي بذكرى أكثر من أن تقول شيئاً ذا بال، وإلا ماذا يعني وجودة مغنية في عمق المسرح تؤدي أغنيات شعبية فلسطينية في مواضع عديدة من المسرحية؟
الشيء الوحيد الذي فعلته المخرجة، ليذكر بأننا الآن في العام 2013 لا في العام 1967 هو أن ممثلة راحت تعد سنوات الغياب عن فلسطين فيما الظلام يسدل على الخشبة. عشرون، واحد وعشرون... خمسة وستون، فيما الخطأ مستمر. لا شيء في العرض أكثر إيلاماً من تلك الأرقام.