أمجد ناصر باكياً على أطلال بيروت المفقودة
بقلم: رشيد العناني
أما القسم الثاني من الكتاب، فيضم مجموعة صغيرة من النصوص الشعرية لأمجد ناصر نفسه، إلى جانب أخرى لمحمود درويش ومعين بسيسو وسعدي يوسف مما كتب أثناء فترة الحصار، وهو لذلك قريب من حالة «الانفعال» الشخصي، على رغم كونه بطبيعة الحال أكثر صقلاً وأقل مباشرة من اليوميات. إنما هو القسم الثالث، «العودة إلى الفردوس المفقود»، والذي كتبه ناصر عقب زيارته الأولى لبيروت بعد 14 عاماً من نجاته من الحصار وخروجه من بيروت. هذا القسم من الكتاب هو الذي يمثّل ما يعنيه وردزورث بـ «الاستعادة في هدوء». وبرغم أن النصوص نثرية، إلا أن روح الشعر ولغته الكثيفة المتأملة تقطن بين سطورها.
الكتابة الانفعالية المباشرة، النابضة بالخوف من الموت، نجدها في مثل هذه اليومية: «رحت أركض على غير هدى. الطائرات فوقي تماماً في سماء عارية. صوتها يمزق الأحشاء. أشعر به في معدتي. روحي تصعد إلى حلقي...» (ص38). الكاتب الذي كان يعمل وقتها بالإذاعة الفلسطينية من بيروت، والذي كان عليه أن يكتب هكذا حين لا يكون مشغولاً بمحاولة البقاء على قيد الحياة وسط أهوال القصف، كان على دراية تامة بازدواجية الدور المحتوم عليه، وهو ما تعكسه الكتابة التي تزاوج بين الانفعال والتأمل العابر بقدر ما تسمح به اللحظة: «الوعي بدورنا لا يعني أن القلب لا يرتجف عندما تنقضّ الطائرات على رؤوسنا. الوعي لحظتَها يفقد وعيه وتشرئب الغريزة» (ص 40). على أن النثر الذي يقطر دما ويصمّ آذاننا بهدير الطائرات ورعود الانفجارات، لا يستنكف أن ينعطف بين الحين والآخر نحو غنائية رقيقة تُذكّر بأشياء الحياة الأليفة التي غيبتها الحرب: «شاهدت امرأة من نافذة مقابلة لبناية «الحمرا سنتر» تتزين أمام المرآة مواصِلةً التقاليد الأنثوية لزمن السلم» (ص 43).
والغريب أن أفكار الشاعر الشاب (27 عاماً حينها)، كانت تبدو متجانسة ومقولة «وردزورث» الشهيرة، فهو يتأسّى في إحدى اليوميات بأنه: «غير قادر على كتابة الشعر هذه الأيام (...) لا أعرف كيف، ولكني لا أستطيع كتابة الشعر. مقابل ذلك أكتب كثيرا للإذاعة (...) مقالات وخواطر تشبه الشعر ولكنها ليست شعراً. يبدو أنني وقعت ضحية تصوري للشعر (...)» (ص 52-53). والحقيقة أن تصوره للشعر صحيح تماماً: هو الكتابة غير المباشرة للواقع، إلا أنه كان وقتها منفعلاً حتى خوف الهلاك الشخصي بواقع الحصار والموت العشوائي. لم يكن ثمة سبيل «لاستعادة الانفعال في هدوء»، ولذلك لم يكن ثمة سبيل لكتابة الشعر.
وحين يحاول الشاعر الشاب المحاصَر أن يكتب الشعر على الرغم من «عدم قدرته» المعلنة، على نحو ما نرى -مثلاً– إذا ما انتقلنا إلى قسم النصوص من الكتاب، في قصيدة «جزائري من قلعة «أرنون»»، فإننا نفهم تماماً لماذا لم يكن يكتب الشعر وقتها: «أيها الجزائري القادم من القلعة/ يا عبد القادر/ لم تحطّم قلبك الطائرات/ ولم تنثن أمام جبل الفولاذ/ بسلاحك البسيط/ صرعت الكولونيل/ وعلى كتفك الهشة/ حملت محمداً الفلسطيني/ للدم لون واحد/ بين «وهران» و«الشقيف»/ وللغزاة كأس واحد/ كأس الهزيمة» (138-139). هذا شعر شبه مباشر، قريب جداً من اليوميات المباشرة التي يشير فيها الشاعر أيضاً لقصة المقاتل الجزائري.
أما القسم الثالث من الكتاب، «العودة إلى الفردوس المفقود»، فهو عنوان تُقصد به المفارقة، فليس العثور على الفراديس المفقودة من شيم الخبرة البشرية، وليست عودة أمجد ناصر في 1996 إلى بيروت بعد 14 عاماً من الغياب، بالاستثناء من هذه القاعدة.
لا يعود الشاعر إلى «الفردوس المفقود» إلا لينغمس في رثائه والبكاء على أطلاله، غير مفترق في هذا عن الشاعر العربي القديم، إذ يعاين آثار ديار الحبيب المندثرة في الصحراء: «ها أنني لا أفعل شيئاً سوى محاولة إحياء شبكة من الصور المندثرة. كأنني لم آت إلى بيروت إلا للتيقن مرة وإلى الأبد أنني عشت في هذه المدينة فعلاً، ولم يكن الأمر مجرد التباس (...)». الانفصام تام إذن بين واقع 1996 وبين ذكرى 1982 وما قبلها. بين أطلال اليوم وعمران الأمس، بكل المعاني المادية والمعنوية. ناهيك عن المعنى الإضافي المستتر، عن الفصام بين أطلال الواقع الأربعيني للشاعر في التسعينات وذكريات الشاب العشريني في الثمانينات.
يدمغ الأسى والحسرة والإحساس بالفقدان صفحات القسم الثالث من الكتاب، إلا أن الواعية الشعرية تناضل من أجل استطلاع بصيص من الأمل وسط الأطلال المحيطة. على أن الشاعر الباكي أمام أطلال فردوسه المفقود لم يعد له في الحقيقة كبير ثقة بالأمل الطالع من بين الشقوق والانكسارات: «الأمل يا لبروقه وهتافاته المضللة!» (ص218).