رياض بيدس: تراجع الأدب هنا لغياب المنابر

أجرى اللقاء: اسكندر حبش

"السقف" (دار أبعاد)، عنوان المجموعة القصصية الأخيرة للروائي والكاتب الفلسطيني رياض بيدس. أقاصيص قد تقرأ أيضا بكونها حالة متسلسلة، ما يجعلها قريبة من الرواية، إذا جاز التعبير، وهي عبر الكثير من الشخصانية ترسم لنا صورة عن مدى قمع وبطش السلطة الإسرائيلية، وان لم يكن ذلك بشكل مباشر. حول الكتابة من داخل الأرض المحتلة، كما عن مجموعته، هذا اللقاء.

تكتب من داخل الأرض المحتلة، هل للكتابة من هناك «طعم آخر»، هل تشكل وسيلة من وسائل المقاومة لديك؟
^ بالطبع ثمة «طعم آخر» للكتابة من الأرض المحتلة قد لا تجد لها مثيلا في بلدان أخرى. فالواقع هنا يفرض نفسه على الكاتب وغير الكاتب. ثمة نسيج اجتماعي وسياسي يختلف عنه في أي مكان آخر. ولا بدّ لهذا النسيج من أن يتغلغل في أعماق النص شاء الكاتب ذلك أم رفض. ومرد ذلك بالأساس إلى أننا أقلية قومية فلسطينية نعيش على أرضنا ونحيا حياتنا من دون أي استسلام. طبعا، الصعوبات هنا عديدة جدا: منها التمييز العنصري المرعب الذي تمارسه السلطة ضدنا، أيّ ضد فلسطينيي الداخل. من تحويل قرانا ومدننا إلى «غيتوات» ونهب الأراضي إلى التضييق على المستوى الفردي والجماعي. بقاؤنا يحــمل في طــياته بطولة فردية وجمــاعية. والسلطــة مــن جهتــها لا تتــورع عن استعمال كل وسائل الاضطهاد، لدرجة تشـعر أحيانا انك اعزل أمام آلة جــبارة مــن القــمع ضدك أو انك فأر تجارب، من دون أن تدري، تمارس عليك السلطة كل ما لا تمارسه على الإسرائيلي. السلطة تتفنّن في اضطهاد البعض إلى درجة كابوسية، لكن علاقتنا بالبلاد ليست علاقة عابرة، مثل علاقة أي يهودي قادم من أوروبا، بل هي علاقة تمتد لمئات السنين وهي ذات جذور عميقة جدا. في كل هذا المشهد الغريب تأخذ الكتابة طابعا خاصا ذا نكهة خاصة جدا.
أما عن الكتابة كفعل مقاومة، فهي حقا كذلك. حتى قصيدة عن الحب يكتبها شاعر هنا هي فعل مقاومة. في هذا العالم الموحش والجميل هنا موحش لأنه ضدك وكل رموزه ضدك كفلسطيني صاحب البلاد الأصلي، وجميل لأنه عالمك وبلادك حتى في عالم احتلال كاسح و«ابرتهايد» تكون الكتابة فعل مقاومة من الطراز الأول. أساسا لا شيء يحمي كالكتابة هنا: ففي عالم متغيّر إلى درجة جنونية طيلة الوقت تجد الكتابة معنى واسع الدلالة هنا: فمجرد أن تسافر لعشرين دقيقة من بلدتك الفلسطينية إلى بلدة يهودية حتى تشعر بالفرق الكبير وبالتمييز العنصري الخانق. كل التفاصيل الصغيرة تختــلف مـن مكان إلى آخر. الكتابة هنا تصـبح مــلاذا وفعـل مقاومة في آن واحد. ناهيك بأن آلة القــمع الإسرائيـلـية لا ترتــاح بالمرة إلى وجود كتابة فلسطينية ناضجة في الداخل، بل تعمل على تقويض هذا الأمر بشتى الطرق والأساليب، ومنها محــاولة احتواء الكتابة الفلسطينــية وتحويلــها إلى إسرائيلية. لكن لحسن الحظ أو لسوئــه لا يمكــن للكتــابة هــنا أن تكون إسرائيلية بسبب كل القمع والاضطهاد والتمييز العنصري الذي يمارس ضد الفلسطيني.

انسداد الأفق

بوصفك قريباً من هذا المشهد، مشهد الكتابة من الداخل، كيف تجده اليوم، وما أبرز المعوقات التي تعترضه؟
^ المعوقات كثيرة جدا، من هنا منشأ اختلاف الأدب الفلسطيني عن أي أدب آخر.
المعوّق الأكبر هو السياسي. فمنذ تأسيس الدولة العبرية تناقصت ارض الفلسطيني بشكل مرعب، بدءا من سياسة المصادرة إلى محاصرة المجتمع الفلسطيني في الداخل. لا يمكن لأدب أن يستمر من دون ارض. كل ما يجري في البلاد ليس طبيعيا: ماذا مع الدولة الفلسطينية؟ ماذا مع حق عودة اللاجئين الذي هو أمر مقدّس؟ آلة القمع الإسرائيلية لا تتوقف عن جرف أراضي الفلسطينيين ولا يبدو في الأفق أي حل. كل هذا ينعــكس على فلســطينيي الـ48. ثــم ماذا مع حقــوق فلســطينيي الـ48؟ حصيلة الأدب الفلسطيني بعد الـ48 كانت هائلة وعظيمة. فهناك محمود درويش وسميح القاسم وإميل حبيبي ومحمد نفاع وتوفيق فياض وغيرهم ممن رفعوا الأدب الفلسطيني إلى مصاف العالمية. ولا شك في أنهم مرجعية هامة جدا لكل كاتب فلسطيني وحتى عربي.
أما الآن وحتى قبل سنـوات عديدة، فان ضمور وهزال الوضع العربي انعكس سلبا على كل الوضع الفلســطيني. ناهــيك عــن أن تراجع الصحـف والمجــلات الثقافــية الفلسطينية في الداخل أدى إلى تراجع الأدب. فلسنين عديدة كانت «الجديد» منبرا ثقافيا هاما جدا، كذلك صحيفة «الاتحـاد». اليــوم تراجــع دور الأدب بسبب غياب المنابر الأدبية من ناحية، وبسبب الأوضـاع عامة. لا توجد حلــول في الأفــق لا سيــاسية عامة ولا حتى فردية. هناك وهم جميل يسيطر على البعض هنا: إننا بخير. في العمق لا يوجد شيء بخير. الصراع على الأرض محتدم، الصراع على الهوية رهيب، العقلية الاستعمارية للإسرائيلي لا تعطيك ابسط حقوقك. كل هذه معوقات وتحديات أمام الأدب الفلسطيني في الداخل. والتوازن في الداخل معدوم، إذ يكاد ينعدم المنطق في هذا الجو المشحون بالاحتلال والبطش.
بين القصة القصيرة والرواية، يبدو أنك انحــزت إلى الفــئة الأولى، بمعنى أن إصداراتك في هذا المجال أكثر من غيرها. ومع ذلك سأسأل، هل ما زالت القصة فنا قائما في العالم العربي؟
^ انحزت إلى القصة القصيرة، مع أني أصدرت روايتين. وفي أعمالي القصصية الأخيرة ثمة رابــط أحيانا يربط بين كل القــصص، لأني لم اعــد ارتــاح إلى كــتابة قــصة قصيرة بالمفهوم التقليدي للقصة. قد تقرأ القصة كقصة قصيرة، لكن في المجموعة قد يختلف حالها مع بعض الجهد من القارئ.
القصة القصيرة كانت وستظل فنا قائما بذاته في العالم العربي وغيره. طبعا في الغرب لا يستهويهم الفن القصصي القصير، بل الروايات الطويلة. ولأننا كشعب فلسطيني نعيش حال من التشظي والتشرذم والاضطهاد وانسداد الأفق والتراجع، ستـظل للقـصة القــصيرة مكانة هامة جدا. وهناك أسماء شابة تتابع الإنتاج في مجال القصة القصيرة بالرغم من كل المعوقات.

التقطيع

«السقف» مجموعتك القصصية الأخيرة، تبدو أكثر شخصانية من أعمالك السابقة، أي تفرد فيها مساحة أكبر للذات (على الأقل فيما قرأته لك).
^
قد يكون صحيحا ما تقوله. هناك حالة يأس عام، ولا شك في أن هذه الحالة تفرض نفسها على الذات العامة وعلى الكاتب. في قصة «المعجون» ثمة خطاب غير مباشر للإسرائيليين أن كفاكم تلاعبا بنا. في هذه المجموعة التي قد تبدو بعض قصصها شخصانية هي استحضار أدبي إلى مدى قمع وبطش السلطة الإسرائيلية، وان لم يكن ذلك بشكل مباشر. الواقع مؤلم وتعيس إلى درجة انك أحيانا تشعر بأنك تسير على براميل بارود في هذه البلاد.
فالتاريخ ماكر، والحاضر مؤس جدا، والمستقبــل قد يكـون حــافلا بما لا تدري من المشكـلات العويــصة. كل ما في هذه البلاد متعب، إلى درجة تتحول معها القرية الفلسطينية إلى دفيئة اجتماعية هامة، لئلا يفترس أعصابك وكل حياتك الوضع العام.
قريبا تصدر لي مجـموعة قصصية بعنوان «المحو» عن دار «راية» في حيفا. في هذه المجموعة التــي تعنــى بالهمّ الــعــام في الــداخل تعمل على إبراز جانب المحو الذي تقوم به السلطة الإسرائيلية لكل ما هو فلسطيني، وعلى رأسها الذاكرة الفلسطينية الشخصية والجماعية منها. هناك حرب على امتلاك الأرض الفلسطينية، وعلى الإنسان الفلسطيني، وحياته، وذاكرته. إنها محاولة محو شامل.
كثــيرا مــا تعتمــد عـلى التقطــيع في هذه المجموعة، كأن في ذلك «همّا» جليا في عـدم الاستسـلام للــغة كي تجرك إلى منتهاها، ما تعليقك؟
^ كلامك هــذا دقيــق جــدا. وهــذا ما تعلّمته مــن الشعــر. فجــو القــصة القصــيرة لا يسمــح بالــثرثــرة الــتي أحبها جدا في الروايات، لذا الجأ أحيانا إلى التقطيع الذي يساعد على الغربلة والفرز. كــما استــعمل أحيانا النقاط الــثلاث في بدايــة فقرة ما للتخــلّص من الزوائد. وهذه الأمور تعلمتها من الشعر.

حرره: 
م.م