رمزية الحجارة عبر التاريخ

بقلم: منيرة ابي زيد

«ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل؟ ألم يجعل كيدهم في تضليل؟ وأرسل عليهم طيراً أبابيل ترميمهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول». هكذا وردت عبارة «حجارة من سجيل» في القرآن الكريم. وقد تحولت هذه الحجارة صواريخ أمطرت على إسرائيل، في تل أبيب والقدس للمرة الأولى، وزرعت الهلع في قلوب المستوطنين. وأخيراً، ارتبطت صورة الحجارة بفعالية المقاومة على عكس رمزيتها المعتادة التي لطالما ارتبطت بهشاشة أجساد الأطفال التي تنزف على أرض فلسطين. وقد حملت هذه العملية العسكرية اسم «حجارة السجيل»، فاكتسبت بعداً دينياً هاماً. وهكذا، بات لهذه الحجارة طابع إلهي، إذ إنها مرسلة من الله، من فوق من السماء، كما أنها ارتبطت برمزية الطيور، ما أضفى عليها سمواً روحانياً. وقد عودنا العدو الإسرائيلي أن يقصف من السماء، ولطالما تميز عدوانه بقوة قاتلة. إنما هذه المرة فقد ارتبطت هذه القوة السماوية بأطفال الحجارة الذين غالباً ما كانت مقاومتهم محدودة وعاجزة. وهكذا، بات لهذا العمل العسكري فحوى روحاني عميق كأنه يجسد قدر الأمة الإسلامية، إذ إنه يعكس طموحاتها وتطلعاتها. فبرزت المقاومة في هذا السياق على أنها مكملة للسورة وكأن الكلام المقدس يتحقق من خلالها. وهكذا، خرجت العملية العسكرية من الزمن الدنيوي لتدخل في الزمن المقدس. فبات ما يجري الآن في أرض فلسطين المقدسة يتواصل مع الإرث الإسلامي الديني، فتوحدت الأقدار عبر الأزمنة والقرون، وارتكزت إرادة الشعب الذي استشهد وعانى الى الإيمان.

إنما لهذه الحجارة ذات البعد الملحمي أهمية رمزية منذ زمن طويل لارتباطها الوثيق بالانتفاضة في بدايتها. سميت الانتفاضة الفلسطينية الأولى بانتفاضة الحجارة لأن الحجارة هي الأداة الرئيسية فيها، كما عُرف الصغار من رماة الحجارة بأطفال الحجارة. والانتفاضة شكل من أشكال الاحتجاج العفوي الشعبي الفلسطيني على الوضع المزري في المخيمات وعلى انتشار البطالة وإهانة الشعور القومي والقمع اليومي الذي تمارسه سلطات الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين. في الثامن من كانون الأول 1987 دهست شاحنة إسرائيلية يقودها إسرائيلي من أشدود سيارة يركبها عمال فلسطينيون من جباليا متوقفة في محطة وقود، ما أودى بحياة أربعة أشخاص وجرح آخرين. وقد اكتفت الإذاعة بإعلان الخبر من دون أن تركز عليه لأنه كان عبارة عن حادث يشبه العديد من الحوادث المتتالية. وقد أشيع آنذاك أن هذا الحادث كان عملية انتقام من قبل والد أحد الإسرائيليين تم طعنه قبل يومين حتى الموت بينما كان يتسوق في غزة، فاعتبر الفلسطينيون أن الحادث هو عملية قتل متعمد. اليوم التالي وخلال جنازة الضحايا اندلع احتجاج عفوي قامت الحشود من خلاله بإلقاء الحجارة على موقع الجيش الإسرائيلي بجباليا. فقام الجنود بإطلاق النار من دون أن يؤثر ذلك في الحشود. وأمام ما تعرض له من وابل الحجارة وكوكتيل المولوتوف، طلب الجيش الإسرائيلي الدعم. وهو ما شكل أول شرارة للانتفاضة. وهكذا، انطلقت انتفاضة الحجارة في فلسطين، وتكرّست رمزية الحجارة تدريجاً حتى حملت أهم عملية عسكرية حصلت مؤخراً اسم «حجارة السجيل».

 

أطفال الحجارة

 

حولت عملية «حجارة السجيل» رمزية الحجارة التي لطالما ارتبطت بالصراع الغير متكافئ، إذ أنها مجرد حجارة في مواجهة السلاح الإسرائيلي. بالفعل، الآن تلك حجارة التي توحي بالعجز ارتبطت رمزياً بالصواريخ التي هطلت على المستوطنات، فباتت وكأنها انتقاماً تاريخياً لكل طفل فلسطيني حمل الحجارة ورشقها على العدو. وقد رسخت صورة الحجارة وترابطها بالطفولة في مخيلتنا بفضل الأدب، نذكر في هذا السياق قصيدة «أطفال الحجارة» للشاعر الفلسطيني محمود درويش: «بهروا الدنيا/ وما في يدهم إلا الحجارة/ وأضاؤوا كالقناديل، وجاؤوا كالبشارة/ قاوموا..وانفجروا..واستشهدوا/ وبقينا دبباً قطبية/ صفّحت أجسادها ضد الحرارة/ قاتلوا عنا الى أن قتلوا/ وجلسنا في مقاهينا..كبصاق المحارة/ واحد يبحث منا عن تجارة/ واحد يطلب ملياراً جديداً/ وزواجاً رابعاً/ ونهوداً صقلتهن الحضارة/ واحد..يعمل سمسار سلاح/ واحد..يطلب البارات ثاره/ واحد..يبحث عن عرش وجيش وإمارة/ آه..يا جيل الخيانات/ وياجيل العمولات/ ويا جيل النفايات/ ويا جيل الدعارة/ سوف يجتاحك مهما أبطأ التاريخ/ أطفال الحجارة». وهكذا، تنبأ هذا الشاعر بالمستقبل، وبما شهدناه اليوم من فعالية الحجارة في النضال. إنما نلمس في هذه القصيدة عقدة الذنب التي يعيشها الأحياء الذين يتمتعون بالحياة حيال الشهداء الذين ضحوا بأنفسهم بهدف تحرير الأرض: «قاتلوا عنا الى أن قتلوا»، «بقينا دبباً قطبية». إن صورة أطفال الحجارة السامية تجعلنا نشعر أننا كالدبب، البصاق، الخونى والنفايات. إنه شعور جماعي بالذل واحتقرار النفس وكأننا إن استمررنا بالحياة بتنا ذات مستوى أخلاقي أدنى من أطفال الحجارة الذين يرقون الى مستوى النور في هذه القصيدة، إذ أن الشاعر يربطهم بالقناديل. فيبرز تناقداً بين البعد الروحاني المرتبط بأطفال الحجارة والبعد الحيواني المرتبط بالخونى. وبالفعل، آنذاك، كانت ما زالت الحجارة ترتبط بالهشاشة والطفولة. وهكذا، تطرق الشاعر الى نضال الضعفاء الذين لا يمتلكون سوى الحجارة للدفاع عن أنفسهم، طفل وحجرة صورتان لا تنفصلان في الأدب، الفن والإعلام على مستوى الإنتفاضة الفلسطينية . تلك الصورة الرومنسية، طفل وحجارة، لها بعد عاطفي، إذ انها تؤثر في الجماهير. الطفل عاجز عن الدفاع عن نفسه، والحجارة لا تحدث ضرراً كبيراً ولا تقتل. إنها صورة بسيطة وعميقة في آن، لها وقعها في نفوس الناس، وبشكل خاص الجماهير العربية. إنما اليوم فقد ارتبطت صورة الحجارة بالقوة والفعالية. بالفعل، إنها حركة التاريخ التي منحت في نهاية المطاف أطفال الحجارة قدرةً على تحدي الاحتلال. يبدأ الشاعر قصيدته بالانبهار الذي عرفناه اليوم حين رأينا الصواريخ تتساقط على المستوطنات، وبات الإسرائيليون هم الذين يجسدون صورة الضعف والانهيار. كما نذكر في هذا السياق قصيدة «الحجر الفلسطيني»: «ولا بد لنا من الاعتراف، أن أسيادنا، وأسياد الأدب العربي/ في هذه المرحلة، هم أطفال الحجارة/ فهم الذين بعثروا أوراقنا.. ودلقوا الحبر على ثيابنا../ وانتهكوا عذرية نصوصنا القديمة.. وطردونا من وراء مكاتبنا/ المكيفة الهواء/ ثم لا بد لنا من الاعتراف وإن كان الاعتراف موجعاً- أن أطفال الحجارة (بهدلونا).. نحن الكتاب العرب الذين كنا/ نتصور أنفسنا آلهة تمشي على ورق... وملوكا لا تغيب/ الشمس عن قصائدهم»، «أما الملوك الحقيقيون، فهم هؤلاء الذين كتبوا بمشتقات/ الدم.. وحبر الحرية.. وجعلوا لغة الحجر لغة دولية تتكلمها/ كل شعوب العالم. من هم أطفال الحجارة؟ ماذا فعلوا بلغتنا، بكلامنا، بمفرداتنا، بشعرنا، بنثرنا، بذاكرتنا البلاغية، بخطابنا الشعري اليومي والمألوف؟/ أهم ما في أطفال الحجارة أنهم قاموا بانقلاب في ذاكرتنا»، «لقد ألغى أطفال الحجارة، إجازات كل الشعراء العرب/ وأجبروهم على أن يلبسوا الملابس المرقطة.. ويلتحقوا بالجبهة/ أنا شخصياً قطعت إجازتي في سوسرا، والتحقت بصفوفهم/ لم يكن عندي خيار آخر/ كان علي أن أكون معهم/ أو أن أكون ضد الشعر». على الرغم من بساطتها اللغوية، تعرض هذه القصيدة إشكالية عميقة، وهي علاقة الكتابة بالقضية الفلسطينية. نكتب، نكتب، نعبر عن أنفسنا، عن تفاعلنا مع ما يجري في فلسطين، إنما هل ينفع ذلك لشيء؟ هل يغير ذلك في مجرى الأمور؟ أنا بنفسي كتبت، كتبت... رالكثير من المقالات. كل حرف، كل كلمة، كل مقابلة، كل لقاء مع ناشط قربني أكثر فأكثر من القضية الفلسطينية. اجتاحتني فلسطين ببطء، بشكل تدريجي. وأخيراً، انتهى بي الأمر في مارون الراس في يوم إحياء ذكرى النكبة. وكنت على وشك أن أبلغ الحدود مع فلسطين المحتلة وأمسك حجارةً وأرمي بها على تلك الأرض. كدت أتحول الى أطفال الحجارة، ولكنني تراجعت حين رأيت جثث الشهداء. وها أنا أكتب هذه المقالة المرتبطة بالقضية الفلسطينية آملةً أن أتحلى بالشجاعة في المرة المقبلة وأتحول فعلاً من صحافية الى طفلة ترمي العدو الصهيوني بالحجارة. إنما لا بد من أن نلاحظ أن الصحافيين استشهدوا مؤخراً في فلسطين، وهم دائماً يدفعون ثمن الدفاع عن القضايا العدالة. وهكذا، يرتبط الصحافي بأطفال الحجارة، إذ إن نفس الهشاشة تجمعهما، وإن كليهما معرض لرصاص وغارات الاحتلال الإسرائيلي، وللموت. في هذا السياق، ربط أنسي الحاج القضية الفلسطينية بالعاصفة في إحدى مقالاته. وبحسب «قاموس الرموز»، ترتبط الحجارة بالصواعق، البرق والأمطار المتساقطة من السماء، فتصبح كأنها عاصفة من الحجارة ذات قوة سحرية ومقدسة، إذ إن الحجارة التي تمطر من السماء تندرج حسب الأساطير ضمن مختلف العوامل الطبيعية التي تُعتبر تجلي إلهي: «العاصفة، هؤلاء الذين، بالعمل السريع، أهانوا الثرثرة السياسية العربية التافهة في الصميم وأظهروها كما هي في تعتيرها، العاصفة أحد الحلول الواقعية لما يسمونه قضية فلسطين. وهناك ربما إمكان حل آخر: الزحف. أقصد المشي الى فلسطين بكل بساطة وأخذها. من؟ طبعاً غير الجيوش. أقصد الفلسطينيين ومن تيسّر من العرب. مسيرة بشرية هائلة بلا سلاح تنفتح من كل الحدود وتنصب على الأرض المحتلة. ماذا يحدث؟ يطلق الإسرائيليون نيرانهم على السائرين؟ ربما. لكن هذا لم يعد ثمناً غالياً». وهكذا، يتخطى الصحافي نفسه لتصبح كتابته حجارةً فعلية تهطل عواصف من السماء. ربما أحياناً نبالغ في كتابتنا، وذلك لأن الكتابة هي وسيلة للتعبير والتواصل، كما أنها تسمح لنا بتحدي الواقع. الكتابة هي حجارة، إنما حجارة من نوع آخر.

 

خارج إطار فلسطين

 

إنما للحجارة أبعاد أخرى لا تمت بصلة للقضية الفلسطينية. نذكر في هذا السياق حجر الفلاسفة الذي يرتبط بتوليد الحياة وتحدي الموت. تلك الحجارة هي مادة خيماوية لها ثلاث مزاية هامة؛ تحويل المعادن الى فضّة أو ذهب، شفاء المرضى وإطالة الحياة البشرية لتتجاوز حدودها الطبيعية. ظهرت هذه الحجرة في فيلم «فولميتال ألشاميست» حيث هي تسمح بالحصول على الحياة الأبدية أو بولادة جيش من الخالدين. وقد برزت كذلك في «هاري بوتر» حيث تصلح لإعداد إكسير الحياة الذي يمنح الحياة الأبدية، كما أنها ظهرت في رواية «الخيماوي» لباولو كويلو. في هذا السياق، تصبح الحجارة مصدرا للحياة الأبدية، وما عادت ترتبط بالموت أو الاستشهاد على الإطلاق.

بالإضافة الى ذلك، لا بد لنا من أن نلاحظ الترابط بين الحجارة والبعد الروحاني في مختلف الثقافات وعبر القرون. بحسب «قاموس الرموز»، لطالما كانت هناك صلة وثيقة بين الحجارة والروح. إذ إن الهيكل يجب أن يبنى بالحجارة الخامة كإشارة الى طهارته. إذا كانت الحجارة منحوتة فهي تفقد قدسيتها وتصبح دنيوية، إذ ان تدخل الإنسان بها يفقدها النقاء الذي وهبها إياه الله حين خلقها. كما أن الحجارة الخامة ترمز الى الحرية، بعكس الحجارة المنحوتة التي تشير الى العبودية. ولطالما لعبت الحجارة دوراً هاماً في العلاقة بين السماء والأرض، من خلال الحجارة التي تقع من السماء أو الحجارة المنتصبة. العديد من الشعوب من أستراليا، إندونيسيا أو أميركا الشمالية كانوا يعتبرون حجارة الكوارتز جزءا من السماء قد سقط عليهم. في هذا السياق، كانت الحجارة المتساقطة من السماء ناطقة، تحمل في طياتها رسالةً أو وحياً إلهياً. كما نذكر الحجرة السوداء الخاصة بشعب السيبال، وما يشبهها لدى الإغريق، بالإضافة الى الحجرة السوداء في الكعبة في مكة وحجرة الدالاي لاما. بالإضافة الى ذلك، تبرز في هذا السياق الحجارة التي هوت من جبين الشيطان.

أما بالنسبة للنُّصب فهي حجارة كان يقدسها العرب قبل الإسلام على أنها تجل للوجود الإلهي. كان يعقوب ينام على حجرة حين حلم بتجلي القدر الذي منحه الله لسلالته، فجعل من هذه الحجرة نصباً كانت تزوره حشود من الإسرائيليين. وكان السلم الموضوع على هذه الحجارة يرمز الى التواصل بين الأرض والسماء، وبين الله والإنسان. كذلك رفع جوزوي حجارةً لترمز الى العهد بين شعبه والله. إنها إشارة للتواصل الروحي. فباتت هذه الحجارة التي تجسد التجلي الإلهي تُعبد. أما الإله اليوناني هيرميس فكان اسمه يرتبط بالحجارة التي كانت تجسد القوة، الحماية والخصوبة. تلك الحجارة منتصبة بشكل عمودي ولها رأس، فباتت صورةً للإله وحملت اسمه. أحد الحجارة المقدسة من أليوبوليس، في مصر القديمة، كان يحمل اسم بانبان. كان يجسد هذا النصب الهضبة الأصلية التي تجلى عليها الإله أتوم ليخلق أول زوجين. وعلى هذا النصب، أشرقت الشمس للمرة الأولى. إذاً في مختلف الثقافات والأديان والأساطير، ترتبط الحجارة ببعد روحاني وبتواصل بين الإنسان والله.

 

الحجارة والعقاب

 

وعلى المستوى الأسطوري، لا بد من أن نذكر حجارة سيزيف التي قد ترتبط رمزياً بالانتفاضة الفلسطينية، إذ ان تلك الحجرة الكبرى تشير بتدحرجها المتواصل الى المعاناة الأبدية. وقد تحدى سيزيف الآلهة لذلك عاقبوه وجعلوه يدفع بالصخرة الى أعلى الجبل، ثم تتدحرج عليه، فيعود ليدفع بها مجدداً الى الأعلى، وذلك الى الأبد. ويمكننا كذلك في هذا السياق ذكر الحجارة التي رُشقت بها مريم المجدلية في الإنجيل. تجسد تلك الحجارة الضغط الاجتماعي على المرأة الزانية، كأنها نوع من العقاب. هكذا، نلاحظ أن الحجارة ترتبط رمزياً بالعقاب بالنسبة لمريم المجدلية، كما على مستوى أسطورة سيزيف. كذلك، يبرز رشق الحجارة في الديانة الإسلامية في سياق الرجم الجماعي للشيطان بالحصى في مكة الذي يتحقق من خلاله مكافحة الخطيئة أو الموت. يذكرنا ذلك بعادة رشق حجرة على كومة من الحجارة بهدف التخلص من الأشباح، أرواح الموت أوالجن. وحين يأتي المرضى لطلب الشفاء من الناسك، فهم يحفّون الجزء المريض من اجسادهم بالحجرة المقدسة. ولا يجدر المساس بهذه الحجارة لاحقاً لأن الشر قد تسلل إليها.

وفي بدايات القرن العشرين، ظهرت الحجارة في الشعر السوريالي وقد اكتسبت أبعاداً جديدة غير مرتبطة بالبعد الروحاني، الديني أو الملحمي. يمكننا أن نذكر في هذا السياق قصائد بول إلويار حيث ترمز الحجارة الى الجماد، الصلابة والكثافة. فيظهر في هذه الأبيات أناس يبدو أنهم بلا حراك على غرار الحجارة، كأنهم مصابون بالذهول: «الشمس نمت/ امرأة شابة ومن الحائط/ من الرسومات الجامدة/ خرجت الحجارة/ على الحجارة، من الشمال الى اليمين/ طفل جلس بالقرب من عجوز،/ وجه». كما ارتبطت صورة الحصى بغياب الحركة، وجماد الجسد الناتج من المرض: «ما عدت أتحرك حرير على المرايا/ أنا مريض زهور وحصى». كذلك تتمازج صورة الحجارة بجماد النظر، تطابقاً مع أسطورة النظر الذي يحول الناس الى منحوتات: «قدمت عيناك من بلاد تعسفية/ لم يدرك فيها أحد أبداً ما هو النظر/ ولم يعرف أحد جمال العيون، جمال الأحجار/ عيون تكسر الحصى». كما يبرز هذا الشاعر جماد المرأة التي تظهر في أحلامه: «انغمرت في ظلي/ على غرار حجارة في السماء». وتضفي الحجارة طابعاً خاصاً على الضجة: «من أجل حصى الضجة». على هذا المسستوى، تجردت الحجارة والحصى من بعدها الديني، وباتت جزءا من عالم بول الشعري كأنها عنصر جمالي في الأبيات السوريالية: «نحن نتأمل بنظام الأشياء، نظام الأحجار، نظام الأضواء، نظام الساعات. إنما هذا الظل الذي يختفي وذلك العنصر المؤلم، الذي يختفي».

بات من الواضح أن الحجارة تترابط مع رموز وأجواء مخلفة بحسب الثقافات والأديان. إنما بعدها الروحي يبدو راسخاً حتى قبل الانتفاضة الفلسطينية. فمن حجارة السجيل الى الحجارة في قصائد بول إلويار، تتغير وتتبدل المعاني. ولا بد من أن نعترف بأن صورة أطفال الحجارة هي جزء من مخيلتنا الشرقية وذات ارتباط وثيق بالقضية الفلسطينية، وهي تترسخ أكثر فأكثر مع صور الأطفال المستشهدين المتكررة على شاشات التلفزيونات. إنما الحجارة موجودة منذ بداية التاريخ، وستبقى موجودة بعد قرون، وستكون لها معانٍ ومدلولات كثيرة. فيا أطفال فلسطين، هل ستصنعون التاريخ بحجارتكم؟ وما هي عاصفة الحجارة التالية التي تنتظرنا؟ اعصفي بنا أيتها الحجارة، ولتفتتح عاصفتك فجراً جديداً ينبلج على هذه الأمة.

السفير

حرره: 
ز.م