ابراهيم نصر الله: الرواية تحمي كاتبها من خطر الأنظمة المستبدة
بقلم: عماد الورداني
ابراهيم نصرالله شاعر وروائي أردني سليل أسرة فلسطينية هجرت من وطنها نحو المنافي، وفي المنافي سيكتب الابن سيرة وطن حرم من الحق في الوجود، وهذه السيرة ستتخذ تمثلات مختلفة فتارة تتدثر بالشعر وتارة بالرواية وتارة بالصورة الفوتوغرافية، لتنصهر هذه الأجناس وتتلاحم في بوتقة اتخذت من الجرح العربي/ الفلسطيني محورا يختلط فيه الجمالي بالمعرفي، والواقعي بالتخييلي، والسردي بالشعري، لكن الكاتب لم يوقف نصوصه على القضية وحدها وإنما فتح نصوصه على قضايا الإنسان باختلاف لونه ولغته وموقفه من الحياة والوجود، فحيثما وجد الإنسان هناك قضية. وقد صاغ الكاتب تجربته الإبداعية في قوالب متنوعة ومختلفة من حيث الصيغ الجمالية والمعرفية، فإبراهيم نصر الله يقدم نصوصه الإبداعية بوعي وحرفية كبيرين، حيث يسيج موضوعه بنسق جمالي ومعرفي يظهر مدى اهتمامه بالتفاصيل الدقيقة والجزئية.
وقد صدرت لإبراهيم نصر الله الشاعر مجموعة من الدواوين وهي: الخيول على مشارف المدينة، والمطر في الداخل، والحوار الأخير قبل مقتل العصفور بدقائق، ونعمان يسترد لونه، وأناشيد الصباح، والفتى والنهر والجنرال، عواصف القلب، وحطب أخضر، وفضيحة الثعلب، وشـرفات الخريف، وكتاب الموت والموتى، ومـرايا الملائكة.
أما الرواية فصدرت له الروايات الآتية: براري الحُمّى، الأمواج البرية، عَـــوْ، مجرد 2 فقط، حارس المدينة الضائعة، الملهاة الفلسطينية: طيور الحذر، طفل الممحــاة، زيتـون الشوارع ، أعراس آمنـة، تحت شمس الضحى، زمن الخيول البيضاء، قناديل ملك الجليل إلى جانب أعمال أخرى روائية ونقدية.
في هذا الحوار نكتشف ولع ابراهيم نصر الله بالصورة، وكيف أن تشكلها يتخذ مراجع مختلفة، تمتح من الحياة بمفارقاتها ومطباتها وبما تتيحه من تلونات قادرة على الانسلات إلى الإبداع، وهي التلونات التي قادته إلى التأريخ للعذاب الفلسطيني عبر مشروع الملهاة الفلسطينية المتجذر في تربته والممتد في قرنين ونصف، والمتنقل في حقب تاريخية مختلفة منها ما عاشه الكاتب وعايشه، ومنها ما بحث عنه في أروقة الحكاية المؤجلة، ليظل مشروع الملهاة مفتوحا ومشرعا على المستقبل بأسئلته الشائكة، وإلى جانب مشروع الملهاة دشن الكاتب مشروعا آخر هو مشروع الشرفات التي يمكن اعتبارها بمثابة مرايا لواقع عصي على الفهم، وابراهيم نصر الله يحاول أن يقدم قراءته للمكان وللإنسان وللوجود. وإلى جانب إشكالات الرواية الجمالية والمعرفية، يعترف ابراهيم نصر الله أن الكتابة الممانعة التي تفكر خارج نسق المؤسسة الرسمية تعرض صاحبها للمحن، لكن يبقى النص وحده هو الضامن لسلامة كاتبه، ويبقى الكتاب مفتوحا نحو المغيب والمقصي، فكل كتاب يصدره ابراهيم نصر الله ما هو إلا فصل من فصول كتاب مفتوح.
أصدرت خمسة عشر ديوانا شعريا، وخمس عشرة رواية إلى جانب تأليفات في النقد السينمائي، وإقامتك لمعارض فوتوغرافية، والمتتبع لمسارك الغزير، والممتد في ثلاثة عقود يكتشف هوسك بالصورة، فالصورة هي البوتقة التي ينصهر فيها الشعري والسردي والنقدي.. لماذا هذا الاهتمام الكبير بالصورة؟ هل ترى أن الصورة هي المدخل الرئيس إلى الحياة؟ أم إن ولعك بالصورة مرتبط بإنتاج تشكلات متوازنة عن الواقع العربي؟ هل مرجعية الصورة لديك هي مرجعية جمالية خالصة أم تحركها أسئلة فلسفية وجودية؟
كل الإجابات حول هذا الموضوع مترابطة، وليست متوازية؛ فالصورة، وبالذات السينمائية لعبت دورا كبيرا في تشكُّلي منذ البدايات، ولم تزل منبعا للدهشة، لأنها قادرة دائما على أن تفاجئ العين. وذلك يتعدى كادر الصورة السينمائية، إلى صور الطبيعة، الحياة، الجمال، البؤس، وما إلى ذلك، إذ إن العين لم تزل تشهق كلما وجدت نفسها وجها لوجه مع جديد لم تره من قبل. إدراكي لهذا، كان لا بدّ من أن ينعكس على قصيدتي وعلى سردي، كما يتبادل السرد والشعر الخبرات حينما أكتب.
أحب أن يكون للنص الذي أكتبه مراجع متعددة، ولا شك أن الصورة في مقدمة هذه المراجع، سواء أكانت سينمائية بالدرجة الأولى أو فوتوغرافية، أو لوحة تشكيلية، أو مشهدا رائعا مهملا لم يجد فنا يمدّ له اليد وينتشله من الهامش، أو من العمى!
ثم من ناحية أخرى نحن نتحول اليوم إلى صورة من صور المشهد الطويل لهذه الحياة، لأننا بتنا قوتَ تكنولوجيا منفلتة تتفنن في تحويلنا إلى مادة شهية لابتلاع الخصوصيات والحياة أيضا.
لذا كان من الطبيعي أن تشغلني الصورة كثيرا، وأن أتجاوز في علاقتي معها دور (المشاهد) أو المتكئ عليها في الكتابة إلى دور (المُحاوِر) لها و (المتأمل) لها في كتابَي اللذين أصدرتهما عن السينما: (هزائم المنتصرين- السينما بين حرية الإبداع ومنطق السوق)، و (صور الوجود السينما تتأمل)، أو في معارضي الفوتوغرافية الأربعة التي أقمتها.
تتوزع أعمالك الإبداعية بين أجناس أدبية متنوعة، لكل جنس منها خصوصياته ومفاهيمه، فالقصيدة تقوم على مقومات تختلف وبلاغة الرواية. وتمارس النقد السينمائي الذي ينبني على معايير دقيقة من قبيل اللقطة والحوار الدرامي والديكور والموسيقى التصويرية وغيرها، كما تمارس غواية التقاط الصور الهاربة التي تلتقطها لتؤرخ للذاكرة. لماذا هذا الإصرار على أن تكون روائيا وشاعرا وناقدا سينمائيا؟ لماذا لم تخلص لجنس واحد؟ هل هذا التنوع الإجناسي مرده حاجات نفسية تحتم على المبدع اللجوء إلى جنس دون آخر؟ وأنت تشيد عوالمك ألا تتداخل عليك الأجناس وتتشابك لتشكل عالما يؤمن بالكتابة دون إقامة اعتبار للمعايير؟
ليس هناك إصرار على أن أكون كل هذا، ولكن هناك إصرارا على ألا أجعل كل هذا يفوتني، لأنني لا أحب أن أكون عابرا كسولا لهذه الفنون فقط.
تجربتي في الأساس مكثفة في الشعر والسرد، ولكن، في ظني، من الصعب أن أكتب السرد الذي أريد، والشعر الذي أريد بعيدا عن كل ما يمكن أن يُغنِيْهما. فالفنون هي روافد أساسية للأدب، مثلما هي الفلسفة والعلوم والدراسات الأنثربولوجية.. إلى آخره.
وأستغرب أن يعيش كاتب في القرن العشرين والحادي والعشرين، وهو مغمض عينيه، يرفض أن يرى كل هذه الإنجازات المتحققة، ومنها بشكل خاص السينما، لأنني لا أجد فرقا بين هذا الكاتب وأي كاتب عاش في القرون الوسطى مثلا!
لكن الروافد لها قوتها، فهي ليست مجرد ديكورات للنص الأدبي ومعماره، بل تتحول في أحيان كثيرة لتصبح جزءا أصيلا منه، كما حدث معي في رواية (شرفة الهذيان-2005) التي اجتمعت فيها فنون المسرح، الشعر، الفوتوغراف، التشكيل، السيناريو، الخبر الصحفي، الصورة الصحفية، الكاريكاتير، وبالطبع السرد الروائي. إذ ما معنى أن تكون مندغما في هذه الفنون كلها ولا تستخدمها في أدبك. فنحن ككتاب في النهاية مثل العازف الذي يدرب أصابعه كي يعزف، والمغني الذي يدرب أوتار صوته كي يغني، والعداء الذي ينمّي عضلاته كي يركض، وبغير هذا لا يكون هنالك أي معنى لثقافتنا التي نشقى للحصول عليها.
في سنة 1996 بدأت بنشر مشروع روائي قومي، يؤرخ لتاريخ العذاب الفلسطيني، في تلك السنة بالضبط أصدرت الجزء الأول من الملهاة الفلسطينية، ثم توالت الأجزاء المكملة للجرح الفلسطيني (طفل الممحاة، زيتون الشوارع، أعراس آمنة، تحت شمس الضحى..) وقد وصلت هذه السنة إلى الجزء السابع ‘قناديل ملك الجليل’، وملهاتك هي أضخم عمل سردي عربي لحد الآن، ألم تشف بعد من جرح الملهاة الفلسطينية؟ هل ما زال هذا المشروع مستمرا في الزمان مع استمرار سؤال القضية؟ ولماذا لم تتخذ في ملهاتك سبيلا كرونولوجيا واخترت أن تبدأ من مراحل متأخرة ثم عدت إلى مراحل البدايات؟
القضية الفلسطينية مفتوحة على المستقبل كما هي مفتوحة على الحاضر والماضي، وما دمت تعيشها ككاتب، وتعيش نتائجها يوميا، فإن أشياء كثيرة ستظل تفاجئك وتلحّ عليك، فالقضية الفلسطينية سؤال كبير لا تستطيع الإحاطة بتفرعاته في عمل أدبي واحد، ومن هنا جاءتني فكرة كتابة روايات متعددة، مستقلة، ومختلفة في بنائها الفني وفي شخصياتها عن أخواتها. لقد عملت على هذا المشروع السردي منذ عام 1985 وكلما كنت أتقدم فيه كانت تنفتح أبواب جديدة، وأجد نفسي أما أسئلة جديدة، فالقضية الفلسطينية ليست سياسة، إن فيها كل الأسئلة التي أرّقت البشر منذ وجودهم على هذا الكوكب، أسئلة الحرية، العدالة، الحق، الموت، المصير، الحب، الاغتراب…. ولذا حين تكتب عنها فإنك تجد نفسك في مهب تلك الأسئلة، والتحدي يصبح أكبر. فدوري ككاتب يتجاوز كثيرا حدود الواقعة الكبرى لسلب الوطن الفلسطيني، ليصل جوهر ما يحدث في الفلسطيني وللفلسطيني كإنسان أولا، وكصاحب قضية.
أما عن مسألة البدء من الحاضر ثم الانتقال إلى الماضي فأظن أن المسألة منطقية، إذ بدأت بما عشته ثم انتقلت إلى المراحل السابقة، فالإحاطة بجوهر تجربتي كإنسان لاجئ كان لا بد منها لكي أستطيع الإحاطة بتجارب الآخرين. أي تحاول أن تفهم نفسك قبل أن تحاول فهم الآخرين. اليوم أرى أن هذا المسار المعاكس أفاد هذا المشروع كثيرا.
أما حول استمراريته، فأظن أن مشروعا كهذا سيظل مفتوحا على اكتشافات وتجارب جديدة، ولذا لن يتوقف ما دمت قادرا على الكتابة.
إن اشتغالك على الملهاة الفلسطينية هو اشتغال على 250 سنة من تاريخ فلسطين، وهذا الاشتغال انبنى على ضبط المراحل التاريخية بأحداثها ووقائعها وعاداتها ومواقفها وتقاليدها، وأنت تشتغل على مشروعك وجدت نفسك أمام تاريخ موزع بين مصادر ومراجع ومخطوطات وصور وحكايات شفوية حاولت أن تحاورها وتؤولها لتنتج عملا سرديا يتراوح بين الواقعي والتخييلي. إلى أي حد كنت وفيا للتاريخ المدون؟ هل تعاملت معه بموضوعية أم أنك تصرفت في وقائعه؟ ألم يشكل مشروعك الروائي قراءة نقدية لوقائع ضبابية أو تحتمل أكثر من قراءة؟ هل تمكنت من الانسلات إلى الحكاية الفلسطينية بأسئلتها والقبض على الحكاية الهاربة حكاية شعب عاش الأمرين؟
حين تذهب للكتابة عن التاريخ فأنت تذهب لكتابة عمل سردي، أي رواية، وهناك مسافة بين شكل كتاب التاريخ وشواغله، وبين شكل الرواية ولغتها ومشاغلها. لكن، وكما تعرف فإن الأساس في كل كتابة بحثك ورؤيتك ككاتب. أحيانا تذهب إلى المكتبة وتستمع إلى الناس الذين لم تلتق بهم من قبل، وأحيانا تكون أنت المكتبة وأنت الناس الذين عرفتهم، لأنك تستند إلى معارفك في كتابة نصك الجديد.
كل ما أسعى إليه هو ألا يبتلع التاريخ النص الروائي باعتباره نصا أدبيا إنسانيا، وحتى لو كان الأمر متعلقا بشخصية مثل شخصية (ظاهر العمر) ورحلته لتأسيس دولة عربية مستقلة في فلسطين في القرن السابع عشر، فإن الأساس الذي ابني عليه نصي هو جوهر وتشابكات الحياة والبشر مع واقعهم الإنساني، الوجودي، الجمالي، والتراثي. الرواية هنا لا تخون التاريخ الفعلي للأحداث، ولكنها قراءتي الخاصة لتلك الأحداث. ومهما كانت الرواية تاريخية، أفضل أن يكون التاريخ فيها أشبه بالسكر في كوب الشاي، نتذوقه، ولا نراه؛ لأن الأمر، حين يسير بهذا الاتجاه تضمن ألا يتحول نصك الأدبي إلى نص تاريخي فتفقد بذلك النصّين.
أما الموضوعية، فهي مسألة شائكة، إذ إننا في الأصل منحازون، ولكن الرواية تتيح لنا هذا الحيز من (المكر) كي نبدو محايدين، وكي تبدو الوقائع والشخصيات تسير على هواها وبمنتهى الحرية. فاختيار الموضوع هو انحياز. اختياري أن أنشغل طوال حياتي الأدبية بمشروع كالملهاة الفلسطينية هو انحياز، لكن دوري ككاتب هو أن أحرر نصي من كل انحياز مكشوف ما استطعت، حتى يكون نصا فاعلا في القراء حيثما كانوا.
أما عن قراءة الوقائع التي مرّت، فهذا أمر في صلب الكتابة، فنحن أشبه ما نكون بالغطاسين، نغطس في البحر لا لنبقى فيه، بل لنخرج ونقول شيئا فيما رأيناه! وتبقى حكاية القبض على الحكاية الهاربة أمرا مفتوحا، فما دمت على قيد روحك فأنت تكتشف، ولا يتوقف الأمر إلا بالموت، مع أنني أتمنى أن يواصل نصي اكتشاف ما لم أستطع قوله، مع قراء متجددين.
منذ سنة 2005 دشنت مشروعا روائيا جديدا، هو مشروع الشرفات، حيث استطعت لحد الآن نشر ثلاث روايات وهي، شرفة الهذيان، وشرفة رجل الثلج وشرفة العار، ففي روايتك الأولى تقدم لنا رحلة رشيد النمر نحو الحرية والانعتاق من القيود، لكن البطل سرعان ما يكتشف زيف أحلامه، فقد أصبح مسؤولا عن التعتيم والتستر على الحقائق وإعطاء معلومات خادعة، وهي رواية انبنت على العبثية، بينما في شرفتك الثانية تقدم نقدا لاذعا وساخرا لعلاقة الصحافة بالمخابرات ولعلاقة الصحافة بالكتابة والثقافة وأحلام الصحافيين، فبهجت كان يطمح أن يصبح محررا مشهورا، لكن الكتابة انتهت به في الصفحة الأولى قتيلا، وهو عمل ينبني على السخرية. أما في شرفتك الأخيرة شرفة العار، فتنتقل من موضوع الإعلام وأسئلته إلى موضوع جرائم الشرف، حيث ترصد حكاية امرأة اسمها منار تعرضت للاغتصاب، مما دفع أسرتها للتخلص منها أمام الملأ. من العبث نحو المفارقة الساخرة إلى النقد اللاذع، ألا ترى أن شرفاتك لا تسير وفق خط تصاعدي نظرا لتنوع موضوعاتها وتمثلاتها الجمالية؟ ما الذي يوحد هذه الشرفات؟ وهل يمكن اعتبار هذه الأجزاء الثلاثة بمثابة أعمال مكملة؟ إن كان كذلك أين تكمن وحدتها؟ وهل هناك شرفات جديدة ستطل علينا؟
وحدة هذه الشرفات في ظني قائمة في وحدة الواقع العربي الرهين للموضوعات التي حاورتها أو عاركتها الشرفات الثلاث، وهناك شرفة رابعة هي (شرفة الهاوية) ستصدر في حزيران القادم.
ولذا فمشروع الشرفات هو الوجه الآخر لمشروع الملهاة الفلسطينية، إذ وجدت أن مشروع الملهاة سيكون ناقصا إن لم أكتب مشروعا موازيا له هو مشروع الشرفات، لتأمل وقراءة واقع عربي مستبد إنسانيا وسياسيا ولا ينتج سوى ضياع مزيد من الأوطان بمن عليها. هذا هو هاجس (الشرفات) أن أتأمل ما يحدث للإنسان العربي من سحق يومي سياسيا واجتماعيا؛ حيث يتحول الفرد في الإطار الاجتماعي إلى جلاد لنفسه أيضا.
أما على المستويات الجمالية، فهذا المشروع مفتوح على التجريب الفني والاقتراحات الفنية كبقية أعمالي، وهذا يمنحني، تماما، مثل مشروع الملهاة، قدرة على التجدد، وبالنسبة لي التجدد متعة، والتكلّس في شكل محدد هو مقتل أي كاتب في ظني.
أما عن الجديد، فهناك كما أشرت شرفة الهاوية، وهناك رواية قصيرة عنوانها (شرفة الفردوس) كتبتها منذ ثلاثة أعوام، ويجري الآن العمل على تحويل المخطوطة إلى فيلم سينمائي، ونأمل أن يتحقق ذلك في العام القادم.
في سنة 1985، أصدرت أول روايتك ‘براري الحُمّى’، كنت خلالها قد كرست نفسك شاعرا بإصدارك ست أضمومات شعرية، وهي رواية تحكي عن معاناة معلم هجر من وطنه باتجاه المنافي، وفي المنفى سيعيش انشطارا نفسيا موزعا بين مكان الاغتراب ومكان الفقدان. واختارت صحيفة الغرديان روايتك ضمن أفضل عشر روايات كتبت عن العالم العربي، لكن روايتك جعلت الوسط النقدي يتعامل معها بحذر وتهجم ودفاع، فهناك من رأى أن روايتك تمكنت من التوثيق لفترة عصيبة عاشتها القنفذة والعرضيتين، وهناك من صنفها ضمن الرواية المضادة، ومن النقاد من رأى أنها رواية تشربت الحداثة، وهناك من صنفها ضمن تيار ما بعد الحداثة، وهناك من اعتبر روايتك مجرد هلوسات، وأنها تفتري على بعض الشخصيات الحقيقية، وتسخر من عادات وتقاليد العرضيتين ..وقلت عنها إنها رواية تمكنت من خداعك لتعيش ومازالت الرواية تثير أكثر من سؤال. ماذا تقول بخصوص هذه التصنيفات والمؤاخذات؟ وأين تصنفها؟ وما السر في إثارتها لكل هذه الأسئلة؟ ألا ترى أن ذهنيتنا لا تقبل المختلف وتؤمن بالنمطي والمكرس؟ ما الذي منحته لك هذه الرواية ككاتب؟
أحب أولا أن أشير إلى أن الرواية لم تتحدث عن شخصيات حقيقية بعينها، إنها رواية عن شخصيات إنسانية بسيطة لا أحد يعرفها. وكما تعرف، نحن نأمل أن يعيش نصنا الذي نكتب، لا أن يموت، وأنا سعيد لأن هذه الرواية عاشت، واستطاعت أن تواصل حياتها بقوة رغم مرور 33 عاما على كتابتها.
وفي ظني أن النص القادر على إثارة كل هذا الاختلاف هو نص حيّ، لكن الأجمل هو أن هذا النص أُختبِرَ بالزمن، ولم يزل يلاقي رواجا كبيرا بين مستويات مختلفة من القراء العرب والأجانب. وحين صدرت هذه الرواية بالدنمركية قبل خمسة أعوام وصلت إلى لائحة أفضل خمس روايات تترجم إلى هذه اللغة في ذلك العام، مع أنها نافست روايات كتبت حديثا جدا بل قبل عام من هذا التصنيف.
أعتقد أن على الكاتب، بعد أن يعد نفسه جيدا للوفاء لكتابته، أن يؤمن بما سيقدمه، بعيدا عن الأحكام المسبقة المخيفة، وحين كتبت براري الحمّى بين عامي 1980 و 1981، كنت أكتب هذه الرواية كما يجب أن تكون، كما أفهمها، بعيدا عن حسابات الآخرين. صحيح أن هناك من يختلفون معها، ولكنهم يحترمون مشروعها أيضا، وهو أمر مهم للغاية.
في روايتك ‘عو’ تقدم بطلا إشكاليا، وقف مناهضا للفساد ومقاوما لكل أشكال السلطة، لكن الجنرال حاول أن يضيق الخناق على الكاتب أحمد الصافي بطل الرواية، بل إنه استطاع أن يحوله إلى صفه، ورسم له خطوطه الجديدة التي لا ينبغي أن يتعداها، هكذا يسقط البطل صريعا موزعا بين التهديد والإغراء، ليلجأ إلى عزف الكمان للجنرال ونظامه، وفي روايتك هاته هناك تزاوج بين الرؤية الفجائعية والعجائبية، كما أن فعلك السردي استطاع أن يترجم مشاعر التناقض والازدواجية التي عاشها البطل. لماذا نحتاج إلى الرمز والإشارة عوض التصريح لنعبر عن تحولات المثقف؟ هل قدر المثقف أن ينهزم أمام سلطة الجنرال؟
هذه الرواية كتبت في أشد سنوات القمع في الأردن، وكنت خلالها ممنوعا من السفر لمدة ست سنوات، لكن الرمز لم يكن هربا بقدر ما كان توسيعا لمرامي الرواية، فما يحدث فيها لا يختلف أبدا عما يحدث في الدول المحيطة بفلسطين، ولذلك كان عدم تحديد المكان هو توسيع له، هذا حدث معي حينما كتبت رواية (طفل الممحاة) عن حرب 1948.
هنا المكان وحده كان الغائب اسما، لكن قضية المثقف كما جاءت في الرواية، هي قضية عربية، ومن يقرأ عنه سيحسّ أنه أردني، وفلسطيني ومصري ومغربي وسعودي.. وهكذا. فسقوط المثقف هنا قضية كبيرة تتجاوز الجغرافيا.
في روايتك (حارس المدينة الضائعة)، تحكي عن بطل يكتشف أن المدينة فارغة من سكانها، فيقرر الذهاب إلى الصحيفة مشيا على الأقدام، وفي رحلته يسترجع الماضي، وكيف شكلته المدينة. في روايتك تقدم قراءتك الخاصة لعمان سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.. إنها رواية ساخرة، حيث حولت المكان إلى جحيم، وعمان ما هي إلا صورة مصغرة للمدينة العربية. هل قدر مدننا أن تحولنا إلى أشباح؟ ألا يمكن أن نحلم بالمدينة الفاضلة؟ ألا ترى أن جميع رواياتك تحمل قضايا مصيرية؟ أين أنت؟
المسافة بين المصيري والذاتي متلاشية في صراع وجودنا عربيا، لأن الإنسان لا يضيع إلا في المدن الضائعة، ولا يمكن أن يوجد فرديا في ظل الغياب الأكبر. في ظني أن الحياة أساسها هذا التناغم الموسيقي الدقيق بين البشر ومصائرهم؛ صحيح أن هذا يعزف على العود والثاني على الكمان والثالث على الغيتار والرابع على الطبل، لكن وجودهم يصل اكتماله في ظل تناغمهم، لا في ظل محاولة كل منهم أن يكون الأعلى من الجميع.
لكن رغم ذلك، أدبيا، يحضر الفردي بأسئلته وبقلقه، وبسؤال مصيره، وهذا هو هاجس الشخصية المحورية لرواية (حارس المدينة الضائعة)، ولهذا كُتبت.
حين كتبت عن عمان، كتبت عن مدينة أعرفها جيدا، مدينة راقبتها وهي تنمو، ولا تنس أن الرواية صدرت قبل خمس عشرة سنة، وتتحدث عن الغياب الفعلي، المادي، للناس، بما يعنيه من غياب رمزي، وكان علينا أن ننتظر كثيرا لنصل إلى حضورنا.
لكن البشر وقد استيقظوا عبر ثورات الربيع العربي، مهددون بأن يتحولوا إلى أشباح من جديد وبصورة قاسية. ولذا، تبدو المدينة الفاضلة بعيد المنال، لا لقصور فينا (الآن) فقط، بل لأن هناك قوى لا تريد أن تنجح هذه الثورات في أي بلد عربي، لأنها تعرف أن نجاحها في بلد سينقل هذه الثورات إلى كل بلد، ولهذا لا شيء يهمهم اليوم إلا إفشالها بنشر الفوضى.
السيرة الطائرة، هي ملحمة وجودية، كتبت ما يحلو لك عن السفر والإنسان والكتابة، ولعل هذا الثالوث لم يتحقق إلا عبر الترحال في أمكنة موزعة بين قارات العالم، إنه سفر في الحياة بآلامها وأفراحها. في سيرتك الطائرة تحدثت بصدق عن ذاتك ومواقفها ورؤاها. في سيرتك انتصار للشعر: أمسياتك، المتلقيات، شعرية النص، فجيعته.. بل إن فصول السيرة تتصدر بشذرات شعرية تختزل الكون الحكائي. إن حضور الروائي في السيرة خجول، لا يحضر إلا في مناسبات قليلة، واخترت أن تكتب سيرتك بنفس الروائي عوض نفس الشاعر، وكأن الروائي هنا يكتب عن الشاعر. لماذا غلبت ذكريات الشاعر على ذكريات الروائي؟ هل تجاربنا في الحياة لا تصبح ذات بعد شمولي إلا عندما تشعرن؟ هل قدر الرواية أن تحتضن الوقائع وتنفتح على المتخيل دون أن تستطيع النفاذ إلى عمق الإنسان؟
هذه أسئلة رائعة ولمّاحة. الحقيقة أن المصادفة لعبت دورا كبيرا في أن تكون علاقتي مع من التقيتهم في العالم العربي وكثير من دول العالم تمت عبر الشعر، ربما لوجود هذا العدد الكبير من الأمسيات الشعرية، بخلاف مؤتمرات الرواية التي يغلب عليها البحث والدراسة والشهادة. في الشعر ليس هنالك جسر بين قلبك وقلب مستمعك أو قارئك، حتى على المستوى الزمني، فالقصيدة تصل بشكل فوري أو لا تصل، وهنا يتم التقاط اللحظات الخاصة بين الشاعر والقراء أو البشر الذين يستمعون إليه، بخلاف الرواية التي تحتاج إلى عزلة القارئ ووقته الطويل ليتمّها.
لكن ذلك كله لا ينفي قوة الرواية الروحية على التأثير، وألمس ذلك بوضوح في السنوات التي تلت صدور السيرة الطائرة – 2006، أظن أنني لو كتبت هذه السيرة اليوم، لأضيفت أشياء كثيرة تتعلق بحضور الرواية كوسيط إنساني رائع بين الكاتب وقارئه.
المكان متورط في أعمالك بقسوة، حيث يصل إلى مدارج العشق والتماهي، فهو لا يحضر كبورتريه أو دليل سياحي، لا يحضر كجغرافيا محفورة في الخرائط الرسمية. المكان في أعمالك هو قضية وجودية، أن نكون أولا نكون، إنه وثيقة خارج المفكر فيه، هو رحلة مضنية في تاريخك الشخصي وتاريخ الوطن المنفلت. أتحس أنك تمكنت من تحرير المكان؟ هل قبضت على أسرار المكان المؤجل؟ هل استطاعت اللغة السردية من استرجاع الأمكنة المفقودة؟
أعتقد أن الكاتب يستعيد في كل مرة جزءا من المكان حين يكتب عنه، لأن الأمر يتعلق أيضا بصراع الروايتين، الرواية الفلسطينية والرواية الصهيونية، وهناك جملة في روايتي (أعراس آمنة) تلخّص هذا الأمر إلى حد بعيد، وهي: إن الحكايات التي لا نكتبها تصبح مُلكا لأعدائنا. وأظن أن الأماكن كذلك، فالمكان الذي أكتب عنه أستعيده بصورة ما، وأنا أؤكد ذكرياتي فيه وحياتي فيه وحلمي فيه، ولذا أكتب عن الأماكن وأبنيها كي لا يتمكنوا من تدميرها ثانية، أو لأقل: إنني أحلم وأعمل بجدية كي لا يدمروها أبدا. ولدي حكايات كثيرة عن قراء، حتى، في داخل فلسطين أعادوا اكتشاف مدنهم عبر قراءتهم عنها.
إن المسألة شائكة لدينا: لقد سألتني أستاذة تدرس الأدب العربي في جامعة (سواس) منذ أشهر عن حضور الوجودي في كتاباتي، وفوجئت حقيقة حين أجبتها أن فعل الكتابة نفسه هنا فعل وجود أيضا، ويتّضح هذا ونفهمه حين نقرأ قول غولدا مائير: (لو كان الفلسطينيون شعبا، لكان لهم أدب!). الآن لنا أدب وله حضوره الكبير، وكل ما تحتضنه الروايات من أمكنة وأزمنة جزء أساس من حضورنا المادي، وليس المعنوي فقط.
الكاتب الفلسطيني مسكون بالوجع والألم، فكل الأسماء الفلسطينية بدءا من غسان كنفاني، محمود درويش، ابراهيم نصر الله، معين بسيسو، إميل حبيبي ناجي العلي،.. كل هذه الأسماء وغيرها اتخذت من الجرح الفلسطيني موضوعا لإبداعاتها.. هل قدر المبدع الفلسطيني أن يظل مراوحا بين عذابات الأمس وجراحات اليوم وآمال الغد؟ لماذا يقرن الكاتب الفلسطيني بالقضية؟ ألا يحق لهذا المبدع أن يعبر عن ذاته وأسئلتها؟
‘ أرى أن هذا الأمر بقي سائدا حتى منتصف السبعينات من القرن الماضي، الآن هناك انشغالات إنسانية كثيرة في القصيدة والقصة والرواية. مع أنني أرى أن أي رواية هي أولا وأخيرا حكايات وهواجس وتطلعات البشر كبشر داخلها، فليس هنالك شخصية فلسطينية تطلق النار من الصفحة الأولى حتى الصفحة الأخيرة، فهي تولد وتعمل وتحب وتجوع وتمرض وتقلق ويشغلها خوفها الخاص وأمنياتها الخاصة وخوفها الشخصي من الزمن وما يحدث في العالم..
بمعني أن الإطار في الرواية الفلسطينية الجيدة قد يكون فلسطين لكن الغرف الداخلية والتفاصيل هي إنسانية واسعة، تمسّ البشر في كل مكان.
أما لماذا يقرن الكاتب الفلسطيني بقضيته، فهذا أمر له علاقة أيضا بسؤال الوجود، أي أن الذي كتب هذا الكتاب هو فلسطيني، وبالتالي فإن ذلك يعني أن فلسطين موجودة وستظل.
تمارس غواية النقد السينمائي، ولك تأليفات في هذا الصدد كهزائم المنتصرين، وصور الوجود، ورغم قربك ومعرفتك للوسط الفني، إلا أن أعمالك الروائية ظلت خارج حسابات المخرجين، إذا استثنينا رواية قناديل ملك الجليل التي تحولت إلى فيلم وثائقي. ما سبب هذا التهميش لمنتجك الروائي؟ هل يرجع السبب إلى عدم قابلية تحويل رواياتك إلى أفلام سينمائية؟ أم أن الأمر مرتبط بحسابات سياسية تضع القضية الفلسطينية في هامشها؟ أم أن الأمر اقتصادي مرتبط بعدم إقبال الجمهور على الأفلام والمسلسلات الجادة؟
كانت هناك محاولات كثيرة منذ البداية لتحويل روايات لي إلى أفلام، لكن كل تلك المحاولات توقفت عند نقطة ما، ولكن ذلك ليس له علاقة بسوء الحظ. وأصحح هنا، أن فيلما وثائقيا أنتج بعد عام من صدور (قناديل ملك الجليل)، وعنوانه (ملك الجليل)، لكن لا علاقة له بالرواية، إنه عن شخصية ظاهر العمر التي تناولتها الرواية، وحكاية ظاهر التي يسردها باحثون في الفيلم.
المشروع الأهم في هذا المجال كان مسلسلا عن رواية (زمن الخيول البيضاء) وقد كتبت السيناريو منذ أربع سنوات، وكان سيخرجه المخرج حاتم علي، ثم بعد ذلك المخرج نجدت أنزور، ولكن باختصار شديد: تبين لنا أن ليست هناك فضائية كبيرة ممن التقى المنتج بمن فيها مستعدة لعرض مسلسل عن فلسطين. وهذا أربك الوضع؛ وهناك فضائية طلبت أن نغيّر المكان الذي تدور فيه الأحداث! أيّ مكان يمكن أن يكون مقبولا إلا فلسطين! وهناك فضائية تجرأت وعرضت أن يتم تحويل القسم الأول منها، بتصرّف، إلى مسلسل بدوي!
هذه هي المشكلة، التغنّي بفلسطين في نشرة الأخبار والخطاب، وسحقها على المستوى الإنساني المؤثر.
دفعت ضريبة الإبداع، وهي ضريبة غالية في حالتك، العمل براتب هزيل، فصلت من العمل، منعت من السفر لسنوات، صودرت أعمالك، قدمت لمحاكمات، همشك الإعلام الرسمي.. أكل هذا لأنك كاتب؟ وهل يشكل الإبداع خطرا على مؤسسات الدولة؟ كيف تتعامل مع هذه الأزمات؟
لنعترف، كل كتابة هي مقارعة لأنظمتنا المستبدة، حتى حين نكتب قصيدة حب، لأن هذه الأنظمة تريدنا أن نفكر على طريقتها وأن نأكل على طريقتها ونحبّ، إن أتيح لنا ذلك على طريقتها! وحين أقول نحبّ على طريقتها لا أبالغ، لأنها تحمي قتلة الحب والرحمة بقوانينها.
في البداية كانت المسألة صعبة عليّ، ولكن أظن أن مناعة كبيرة تشكلت لدي، ودليل ذلك أن بعد كتاب كان يمنع كان هناك كتاب آخر يصدر ويمنع.
أظن أنني اليوم في وضع أفضل بكثير، ولنعترف أن كون الكاتب معروفا بصورة واسعة يشكل مصدر حماية له، وكتبه نفسها التي قد يتعرض بسببها للخطر، هي التي تحميه!
خلال رحلتك الطويلة في الكتابة بمعاناتها وطقوسها، هل كتبت النص الهارب منك؟
أظن أن مجمل كتابات كاتب ما هي كتاب مفتوح، وأظن أنني كتبت كثيرا من الفصول في هذا الكتاب، وهي تشكل بعض النصوص الهاربة، لكن هناك الكثير الذي يشغلني، وستبقى المشكلة الإنسانية أن الزمن يبقى ضيقا مهما اتسع.