وهم القدرة الأميركية على فرض السلام في الشرق الأوسط

بقلم: شلومو أفنري

جاء الرئيس براك اوباما وذهب، ولم يحصل ما خاف منه اليمين وأمل به اليسار المتطرف: الرئيس الأميركي لم يضغط، والمسيرة السلمية لم تُدفع الى الأمام. إذ في نهاية المطاف يتبين أنه مع كل القوة والعظمة التي للولايات المتحدة فهي غير قادرة على إيجاد حلول لنزاعات دولية حين تكون الاطراف المعنية بالامر غير مستعدة للقيام بالخطوات اللازمة لتحقيقها. هكذا هو الامر ليس فقط في الشرق الاوسط بل وفي قبرص أيضا، في كوسوفو، في البوسنة، وحتى في كشمير: تجاه كل واحد من هذه النزاعات يوجد للولايات المتحدة موقف واقتراح للحل – وقد طرحت على مدى السنين عدة اقتراحات حل أميركية – ولكن لم يتحقق أي من هذه الحلول.

مخاوف اليمين يمكن تفهمها. والآمال غير الواقعية لليسار المتطرف يمكن التعجب منها. اليسار بشكل عام لا يتحمس للسياسة الخارجية الأميركية، وبالتأكيد لا يحب ما يسمى باللغة السياسية "الامبريالية الأميركية". وعندما تسعى واشنطن الى فرض رأيها على دولة ما، فان اليسار –حقا – يرى في ذلك تعبيراً عن نزعة القوة الإمبريالية. وفي حالة إسرائيل وحدها يأمل اليسار الأميركي والاوروبي وأجزاء من اليسار المتطرف في اسرائيل أيضا بان تتصرف الولايات المتحدة مع اسرائيل كما تتصرف مع جمهورية موز. ومن الافضل عدم الحديث عن التضارب المنطقي – والاخلاقي لهذا الموقف.

لا يعني الامر ان ليس للولايات المتحدة قدرات سياسية قد تجد تعبيرا إيجابيا لها في معمعان الشرق الأوسط. ولكن الامر لا يرتبط فقط بقوة أو ارادة رئيسها، بل انه منوط بالسياق. وبالفعل يوجد سياقان للولايات المتحدة فيهما قدرة هائلة على دفع سياقات ايجابية الى الامام، أو على الاقل منع التطرف في سياقات سلبية؛ ولكن في غياب هذه السياقات ليس لواشنطن القدرة على فرض تسوية على الأطراف. هذا ما تعلمه أوباما بعد إخفاقاته في بداية ولايته الأولى.

يجدر بنا أن نفحص ما هما هذان السياقان. السياق الاول هو في حالة الحرب الحقيقية، حين يكون ثمة تخوف في أن يكون من شأنها ان تصبح حربا اقليمية شاملة او تتسلل لتصبح صداما بين القوى العظمى. في مثل هذه الحالات يمكن للولايات المتحدة أن تستخدم قوتها وتنهي القتال من خلال ممارسة ضغط شديد على اسرائيل. هكذا حصل في حرب السويس، العام 1956، عندما مارس الرئيس دويت آيزنهاور ضغطا ليس فقط على اسرائيل بل وايضا على فرنسا وبريطانيا؛ هكذا حصل في الأيام الأخيرة لحرب "يوم الغفران" حين أدى وزير الخارجية، هنري كيسنجر، الى وقف تقدم قوات الجيش الاسرائيلي، التي باتت في الجانب الغربي من قناة السويس؛ هكذا دفع الرئيس رونالد ريغان رئيس الوزراء مناحيم بيغن الى وقف تقدم الجيش الاسرائيلي داخل بيروت بعد اغتيال بشير الجميل على ايدي السوريين في حرب لبنان الاولى؛ وهكذا منعت ادارة الرئيس جورج بوش الاب من مهاجمة وسائل اطلاق الصواريخ العراقية في حرب الخليج الاولى.

في كل هذه الحالات كان ثمة مصلحة أميركية مباشرة وواضحة لمنع التدهور، وكان الضغط الأميركي حاداً ومركزاً: العمل على وقف القتال. فُعل هذا مرة واحدة، وهو قابل للتأكيد للتكرار حين يكون عدم الاستجابة للطلب الأميركي يمكنه أن يؤدي الى مواجهة عميقة وفورية مع واشنطن.

السياق الثاني هو بالضبط عكس الأول: في وضع تصل فيه اسرائيل وجهة عربية بمبادرتهما الى مفاوضات تقدمت جيدا ولكنها علقت عند نهايتها – تحققت توافقات واسعة، ولكن في عدة مواضيع لم ينجح الطرفان في الوصول الى نقطة التعادل. هكذا كان بعد نحو سنة على زيارة أنور السادات الى القدس، حين اتفقت اسرائيل ومصر في المفاوضات الثنائية على معظم المسائل، ولكن كانت لا تزال عدة نقاط حساسة وجد الطرفان صعوبة في الاتفاق حولها. عندها - وعندها فقط – جمع الرئيس جيمي كارتر بيغن والسادات في كامب ديفيد وفي ظل استخدام الضغوط الشديدة على الطرفين نجح في التغلب على خلافات الرأي المتبقية. ووجد الطرفان صعوبة في تنازل أحدهما للاخر في المسائل موضع الخلاف، ولكنهما وجدا السبيل للقيام بهذه التنازلات، ظاهراً للرئيس الأميركي.

هكذا كان بعد أن توصلت اسرائيل وم.ت.ف الى اعتراف متبادل واتفاقات خارقة للطريق في اوسلو، ولكنهما وجدا صعوبة في عدة مواضيع. عندها – فقط عندها – استدعى بيل كلينتون الطرفين الى البيت الأبيض، وهناك اوضحت واجملت المسائل المتبقية موضع خلاف. هكذا أيضا في موضوع اتفاق السلام مع الاردن، والذي تحقق في أساس الامر بين الملك حسين ورئيس الوزراء اسحق رابين، ولم يفعل الرئيس كلينتون سوى أن منحه مباركته. في هذه السياق يدور الحديث عن حالات بادر فيها الطرفان الى الخطوات بنفسيهما – سواء كان هذا السادات الذي زار القدس وبيغن الذي استجاب له، أم اسرائيل وم.ت.ف في اوسلو، بينما عملت الولايات المتحدة كعراب أو كمحفز، حين كان الاتفاق بمثابة مصلحة للطرفين، وكان في متناول اليد حقاً.

ولكن عندما لا يكون أي من هذين السياقين موجودا – لا حرب حقيقية تشكل تهديدا اقليميا ولا مفاوضات تجري عمليا وتتقدم بين الطرفين –لا تكون الولايات المتحدة قادرة على حمل الطرفين على الاتفاق، بل ولا حملهما على مفاوضات ذات مغزى. وعلى مدار السنين كانت هناك خطط أميركية للسلام في الشرق الاوسط بعدد لا يحصى – من مبادرة وزير الخارجية وليم روجرز، عبر مؤتمر انابوليس في عهد الرئيس جورج بوش الابن وحتى خطوات أوباما في ولايته الاولى. في هذه المحاولات الفاشلة كان أيضا مؤتمر كامب ديفيد 2000، حين حاول كلينتون حمل رئيس الوزراء ايهود باراك ورئيس السلطة الفلسطينية، ياسر عرفات، على الاتفاق؛ هكذا أيضا في المحاولة الفاشلة السابقة لكلينتون لتحقيق اتفاق بين اسرائيل وسورية في مؤتمر شبردزتاون.

في مطارحنا درجنا على التركيز على مسألة من "المذنب" في هذه الاخفاقات، ولكن المسألة هي أكثر جوهرية ومبدئية: عندما لا تكون إرادة سياسية لدى الطرفين – أو لدى واحد منهما – فليس بوسع الولايات المتحدة أن تفرض عليهما الاتفاق. بتعبير آخر: لا يوجد خيار لتسوية مفروضة.

ليس صعباً الوقوف على سبب ذلك: حتى لو كان رئيس أميركي قادرا على جلب الطرفين الى طاولة المفاوضات، وحتى لو نجح في حملهما على التوقيع على هذه الوثيقة أو تلك، فان مسيرة إحلال السلام معقدة، متعددة المراحل وعديدة السنين (كما تثبت معاهدة السلام مع مصر واتفاقات اوسلو). الرئيس الأميركي يمكنه أن يتفرغ لاسبوع أو لعشرة ايام كي يعنى بالشرق الاوسط، ولكنه لا يمكنه أن يرافق عملية تنفيذ الاتفاق على مدى سنين. وإذا كان هذا يودع في يد مبعوث ما – وتثبت ذلك حالة دنيس روس – فانه تنقصه قوة الرئيس، ولن ينجح في حمل الطرفين الصقريين على عمل ما لا يرغبان في عمله.

مؤتمر مدريد هو الاخر، حيث مورس ضغط وحشي جدا على رئيس الوزراء، اسحق شمير، هو دليل على قيود القوة الأميركية. كان يمكن جلب اسرائيل الى طاولة المباحثات، خلافا لارادة حكومة شمير، ولكن في نهاية المطاف – رغم عدة فرص لالتقاط الصور والخطابات المثيرة للانطباع وكل أنواع اللقاءات والاجتماعات في أرجاء العالم – كان مؤتمر مدريد فشلا، وذلك لان أحد الطرفين على الاقل لم يكن مستعدا للتقدم.

وكما اسلفنا، فان هذا هو الوضع في نزاعات مشابهة اخرى. يوجد المفتاح في نهاية المطاف في أيدي الاطراف؛ وفي السياق الاسرائيلي – في أيدي الساحة السياسية الاسرائيلية. اذا كان اليسار الاسرائيلي لا ينجح في الانتصار في الانتخابات، والناخب الاسرائيلي يرفع الى الحكم المرة تلو الاخرى حكومات يمينية، والفلسطينيون غير قادرين على توحيد صفوفهم خلف قيادة معتدلة.. فلا يمكن لاي رئيس أميركي أن يغير هذه الحقائق الاساسية.

في نهاية المطاف، فان أحدا لا يمكنه أن يحررنا – ويحرر الفلسطينيين – من المسؤولية عن مستقبلنا. زيارة الرئيس اوباما دليل على ذلك، وقد وجد الأمر تعبيره بشكل خاص في خطابه المؤثر في مباني الأمة. قال أوباما للإسرائيليين: في يدكم المفتاح، أنتم يمكنكم – ربما – ان تغيروا سياستكم، ولكن لا تعيشوا الأوهام بأن احدا ما قادر على عمل الأمر السليم بدلاً عنكم.