فصل من سيرة ذاتية .. الحقيقة.. ولا شيء غير الحقيقة
أنتمي إلى أسرة فلسطينية تقليدية من حيث البنية الاجتماعية. وأساس هذه البنية، كما هو معروف، تفضيل الأولاد على البنات. وبعد مولد بنتين على التتالي كان لابد من الولد، لكن الولد أعقبته بنت ثالثة. وهكذا كرّت المسبحة حتى أصبح عددنا ثمانية. بينهم ثلاث بنات، وولدان توفيا وهما طفلان. ولما كان اسم أحد هذين الطفلين أحمد ـ وترتيبه الخامس من حيث المولد ـ فقد ورثتُ اسم هذا الطفل الذي يبدو أن أمي كانت متعلقة به على نحو غريب. وقد سمعتُ أبي مراراً يقول إنها ذهبت، في ليلة مجنونة، إلى المقبرة لتستخرج فلذة كبدها من التراب. وكان يحاول أن يعزيها عبثاً بكلام من نوع: هذه إرادة الله، أخذ أحمد وسيعطينا أحمد آخر.. وكان هذا الكلام يهيج نارها بدل إطفائها حتى أنها انصرفت عني بعد أن ولدتني، لأنه ليس من العدل ـ حسب تعبيرها ـ أن تكون "قطعة اللحم" هذه بديلاً لأحمد الغالي. وقد زاد من لوعة الأم أن أحمد هذا مات محترقاً داخل بيتنا القديم في وادي الصليب. وانتقلت الأسرة بعد ذلك إلى وادي النسناس حيث وُلدتُ. كان ذلك يوم أحد، والتاريخ هو 21/4/1946. تمت الولادة في البيت لا المستشفى، على يد قابلة اسمها "كاتبة"، وكانت أمي تتفاءل باسمها، فهو اسم جدتي لأمي أيضاً.
ــــــــــــ
بعد سنتين وُلدت أخت لي، ثم لم نلبث أن هاجرنا ـ وكان ذلك يوم أربعاء، يوافق 21/4/1948 ـ وتروي الأسرة واقعة طريفة. فقد اشترى أبي حماراً لأن أمي النفساء ما كانت لتستطيع المشي طويلاً. ويقال إنهم وضعوني في أحد جيبيْ خُرْج الحمار ووضعوا أختي الوليدة في الجيب الآخر. ولما كنت أثقل منها، على ما كنت أعانيه من هزال، فقد وضعوا إلى جانبها بطيخة ليتمّ التوازن. وكانت رحلة طويلة مهينة باتجاه الشمال. وفي بنت جبيل، القرية اللبنانية الجنوبية، جرت واقعتان عاديتان أو غير عاديتين ـ حسب مشاعر الراوي والمتلقي ـ فقد قام أبي ببيع الحمار لأحد الفلاحين ليوفر لنا الطعام والاحتياجات الأولية. واختفى أخي الكبير، مصطفى، وكان له من العمر اثنتا عشرة سنة. مما سبب للأسرة فزعاً كبيراً. وتبيّن بعد ذلك أنه كان يبحث، ولو متسوِّلاً، عن بعض الخبز الذي شعر أن الأسرة بحاجة شديدة إليه.
لم تكن هناك فرصة للإقامة في بنت جبيل. فواصلت الأسرة رحلتها شمالاً حتى طرابلس. ومع أن هذه المدينة تضم مخيمين أوى إليهما الفلسطينيون وأخذا شهرة فيما بعد ـ هما مخيم البداوي ومخيم نهر البارد ـ إلا أن أبي لم يتمكن من الحصول على سكن لأسرته غير الصغيرة. فكان لابد من المواصلة إلى سورية. وقد قادنا التجوال إلى قرية سورية شركسية اسمها "عين زاط"، ومعناها عين النسر. ومع أن الشركس استقبلونا بالترحاب والإكرام، إلا أن أبي قرر ـ بعد شهر ـ أن نغادر فوراً، لسبب طريف. فقد سمع أن البنت عند الشركس لا تتزوج إلا مخطوفة. والشاب الذي لا يخطف عروسه ليس بالرجل الذي يعتدّ به. ولما كانت شقيقتاي الكبريان صبيتين ـ ست عشرة وأربع عشرة سنة ـ فقد رأى أن الفرار غنيمة. وهكذا وصلنا إلى حمص.
تتميز حمص بمزايا خاصة تمنحها أهمية فريدة بين المدن السورية. فهي تقع وسط البلاد. ويمر بها نهر العاصي الشهير من الجنوب إلى الشمال مخالفاً مسيرة الأنهار في المنطقة التي تبدأ بالشمال وتجري جنوباً.
وقيل إنه العاصي لأنه عصا قانون الأنهار. ويفخر أهل حمص بأن مدينتهم تضم ضريح الصحابي المجاهد خالد بن الوليد. فهي مدينة ابن الوليد. وفيها أيضاً ضريح الفارس الشاعر المخضرم عمرو بن معد بن يكرب الزبيدي. وبطبيعة الحال هي مدينة الشاعر العباسي الشبيه بالأسطورة، ديك الجن الحمصي. وحمص التي هي عبارة عن مرج غني بالخضار والفواكه، لا سيما الخس والبطيخ، تجاور جبل لبنان وبادية الشام. ولها وقائع طريفة مع جارتها مدينة حماة، حيث يتبادل أهل المدينتين المناكفة وتشنع كل منهما على الثانية. وكان في المدينة سوق شهيرة بسوق الغنم، وتسمى سوق الأربعاء لأن تجارة الماشية تأخذ فيها ذروتها يوم الأربعاء. ويقال إن أهل حمص أشاعوا أنهم قوم مجاذيب ويسهل أن تغشهم لأنهم لا يعرفون قيمة الماشية. وأن ذروة جنونهم تكون يوم الأربعاء. مما أغرى تجار الماشية بالذهاب إلى حمص في ذلك اليوم كل أسبوع، وهم لا يدرون أن أهل المدينة قد استدرجوهم ليكسبوا منهم. على أن الحمصي مشهور جداً بالنخوة والكرم. وقد وجد أبي ضالته في مدينة ابن الوليد التي فتحتْ لأسرته باب الجامع الكبير للمبيت ريثما نحصل على مأوى. وحصل أن شيخاً اسمه الجندلي، صعد يوم الجمعة منبر الجامع فشتم الفلسطينيين، وقال انهم في الدرك الأسفل من النار لأنهم تركوا بلادهم. وجن جنون شيوخ حمص. وألقى مفتي المدينة الشيخ طاهر الرئيس خطاباً لاهباً في تعنيف الشيخ الجندلي الذي لم يغير اعتذاره من قرار أبي بمغادرة الجامع. فأوينا إلى "كهف القلعة".. والقلعة هذه أثر عسكري روماني شاهق يقوم على تلة كبيرة. وفي الجانب الجنوبي منها تجويف كبير لا يمكن التفكير، مجرد التفكير، في صلاحيته للسكن البشري. لكن المضطر يركب الصعب. وحين أوى بنا أبي إليه، فوجئ ببعض الأسر الفلسطينية قد سبقته إلى هناك. والآن، بعد أن كبرت، حين أتخيل أننا عشنا هناك فترة من الزمن، مع احتمال أن تعقرنا الكلاب الضالة أو تلدغنا العقارب والأفاعي، فضلاً عن برد حمص الذي يحزّ في العظام، فإن بدني يقشعر فزعاً. لكن تلك الفترة لم تكن طويلة على ما يبدو. ولا أذكر من روايات أمي وأبي عنها إلا قصة حب جارفة عصفت بفاطمة وحسن وهما من أسرتين لاجئتين لا تعرف إحداهما الثانية قبل النكبة. وما يروى عن حسن وفاطمة، شبيه إلى حد بعيد بما قرأته، شاباً، عن حب قيس وليلى.
قبل خروجنا من القلعة إلى المخيم، وقعت حادثة مروعة لا يزال يذكرها كبار السنّ في حمص. وهي الحادثة المسمّاة بـ "انفجار الشمّاس". والشمّاس هذا رجل ثري صاحب مصنع يشتمل على عناصر قابلة للاحتراق أو الانفجار، ويقال إنه كان متزوجاً ذات يوم من المطربة اللبنانية صباح. ويبعد هذا المصنع زهاء ميلين عن المدينة جنوباً. لكن الحرائق والصفائح المتطايرة وصلت إلى البشر، وسببت هلعاً كبيراً. وللمرة الثانية يختفي أخي الكبير مصطفى وتصاب أمي بهستيريا الفقدان. ولن يعود الولد الضائع إلا مساء ذلك اليوم. لقد كان بعيداً عن موقع الخطر، وكان يحتفي بعثوره على عمل لأول مرة.. فقد قبل صاحب معمل يصهر المعادن الخفيفة أن يشغله مقابل بعض الفرنكات. لقد كان قدّر هذا الأخ الكبير أن يحمل عبء البيت على كتفيه الطريتين. وكانت أمي تتباهى به وتسميه عن حق "جمل المحامل". وجمل المحامل سيصبح بعد زهاء عشرين سنة من تلك الواقعة، عنوان واحدة من قصائدي التي ارتبطت باسمي لدى كل من يعرفني.
وقبل أن نصل إلى المخيم أيضاً، تزوجت أختي الكبرى ورحلت إلى إربد، شمال الأردن. فتحولت في مخيلتي الغضة إلى حلم بعيد غامض يفيض بالحنان.
أما المخيم الذي وصلنا إليه، فلا يبعد عن "الشماس" إلا مئات الأمتار. وهو أول مكان مأهول يصادفه القادم إلى حمص من دمشق. كان في الأصل جزءاً من ثكنة عسكرية للجيش الفرنسي أيام الاحتلال.
وبعد جلاء الفرنسيين عن سورية ورث الجيش السوري الناشئ تلك الثكنة وسيجها بالأسلاك الشائكة، تاركاً رقعة مستطيلة من الأرض يبلغ طولها حسب تقديري العاثر ـ فأنا ضعيف التقدير في الحسابات إلى درجة مضحكة ـ ميلينْ، أما عرضها فلا يتجاوز ـ حسب تقديري إياه ـ ثلاثة أرباع الميل. وقد تبين أن هذه الرقعة كانت اسطبلاً لخيول الفرنسيين. فأصبحت مخيماً للاجئين الفلسطينيين. ولأنها جزء سابق من ثكنة عسكرية فقد أصبح اسمها الشعبي حسب اللهجة الشعبية، هو "السَّكَنِهْ". ولكن بما أننا لاجئون في مدينة حمص، فقد أصبح الاسم الرسمي للمخيم عند الحكومة هو "مخيم خالد بن الوليد للاجئين الفلسطينيين". وبنوع من الأمل العنيد، أصر اللاجئون على تسمية أنفسهم بالعائدين، فهو مخيم العائدين. لكن أهل حمص، ولا سيما كبار السنّ، كانوا يطلقون عليه التسمية التي كانت شائعة أيام الفرنسيين "الستين" التزاماً بالكلمة الفرنسية Ceftune غني عن القول إن تلك الأرض لم تكن قد وصلتها الكهرباء ولا الماء ولا التمديدات الصحية. وبدأت وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين المنبثقة عن الأمم المتحدة بالعمل. فأنشأت مستوصفاً في مدخل المخيم من الجهة الشرقية. وكنا نطلق عليه اسم "المستشفى". واستحدثت دورات مياه للرجال ومثلها للنساء للاستخدام العام. وطبيعة الحال كانت هذه الدورات المخصصة لمئات الأسر لا تفي، بشكل طبيعي، حاجات عشرات البشر. أما البيوت السكنية فكان لها نظام صارم. فقد كانت هنا بركسات مسقوفة بالتوتياء. يضم كل بركس عشرين غرفة. وكانت الغرفة الواحدة نصيب كل أسرة يزيد أفرادها عن ستة أشخاص. أما الأسر الأصغر عدداً فكان من نصيبها عرائش مصنوعة من الحصير الممتص للماء. لكل أسرة عريشة. وإذا كان هناك شخص وحيد، أو زوجان جديدان، فهناك أكواخ إسمنتية بالغة الصغر.
طبيعي أن نحظى، والأمر كذلك، بغرفة في بركس. هو الثاني من حيث الترتيب إذا أخذنا بعين الاعتبار صف البركسات الأيمن الذي يبدأ من مدخل المخيم الشرقي. أما الصف الأيسر فيفصلنا عنه ـ ولا يعتمدوا على تقديري ـ خمسة عشر متراً. والآن كيف ننام؟
لنقل أولاً إن جدتي لأبي، وهي عجوز مكفوفة كانت تقيم معنا. أما أختي الثانية فسرعان ما تزوجت وانتقلت إلى أحد أكواخ المخيم. وأما الباقون، فهناك أمي وأبي وأخي مصطفى فأختي زينب فأخي محمد وأنا ثم أختي الصغرى مريم. لن نتوقف عند هذا العدد.. فقد أنجبت أمي طفلاً جديداً، دعته أمي "موسى".
ويقال إنه كان مكفوفاً. لم يعش إلا سنة. وصورته في ذهني ضبابية شديدة الغموض. إلا أن الزيادة الحقيقية التي لمسناها في البيت، كانت مضاعفة، فقد أنجبت أمي آخر أبنائها. وهو "كامل". وتزوج أخي الكبير مصطفى في الغرفة التي تضمنا جميعاً!! لم توفر وكالة الغوث كوخاً خاصاً بالأسرة الجديدة. فأقدمت أمي على شطر الغرفة بحبل غسيل، وفصلت القسم المخصص للزوجين الشابين ببطانيتيْن من هِبَات الوكالة؟.. إلا أن هذا الأمر الشاذ لم يدم طويلاً. ففي يوم مكفهر أليم، أتى رجال غلاظ فاقتادوا أخي إلى مكان مجهول. عرفنا فيما بعد أنه السجن. فقد كان أخي عضواً نشيطاً في الحزب السوري القومي الاجتماعي.
إذ كان لهذه السيرة أن تتحول إلى رواية. فإن بطلها الحقيقي هو أخي مصطفى. هذا الشاب الوسيم الحنون، الصبور، البارّ بالوالدين، المنتج.. والذي يحمل في إهابه مثقفاً بمزاج شاعر. لكن التأثير الذي تركه فيّ لن تظهر نتائجه إلا متأخرة نسبياً.
ولكن قبل الاسترسال، ألا يستحق مخيمنا مزيداً من التعريف؟..
طبيعي ومتوقع ألا تكون الأرض مكسوّة بأي نوع من الإسفلت أو البلاط. وإذا كنا، نحن الأطفال آنذاك، نتدبر أمرنا بالمشي حفاة في الصيف. فإن هذا مستحيل شتاء، حيث تتكثف الوحول بشكل مخيف، فضلاً عن أن المدرسة تلزمنا بانتعال شيء.. أي شيء. وقصة المدرسة ـ أو المدرستين على وجه الدقة ـ قصة.. فمع أن الإشراف التعليمي كان من مهامّ وكالة الغوث. إلا أن الفضل المباشر يعود إلى شخصيتين ستنطبعان في الذاكرة والقلب إلى الأبد. فقد بادر الأستاذ فؤاد ياسين إلى رعاية الأولاد. كما بادرت الست أم سمير كنفاني، واسمها مزيّن السالم، إلى رعاية البنات الصغيرات. وحين أنشئت المدرستان المتجاورتان للذكور والإناث ـ ويجب الاعتراف بأن تصميمهما كان موحداً وجميلاً حتى بمقاييسنا الآن ـ نجح الأستاذ فؤاد في إطلاق اسم قريته الفلسطينية على المدرسة التي يديرها. فهي مدرسة "الشجرة" إلى يوم الناس هذا. أما أم سمير، فهي وإن كانت عكاوية بالانتساب إلى أسرة زوجها ـ وهو عمّ الشهيد غسان كنفاني المباشر ـ إلا أنها أصلاً من الرملة. وهكذا كانت وبقيت مدرسة البنات في مخيمنا إلى الآن، هي "مدرسة الرملة".. في البداية كان الآباء والأمهات يقتادوننا إلى المدرستين، حسب الجنس، عشوائياً.. وشيئاً فشيئاً بدأ تنظيم التسجيل حسب السنّ ووفق الأنظمة المتبعة في الجمهورية السورية.
معروف أن سورية استقلت عن المستعمر الفرنسي في السابع عشر من نيسان 1946، وأننا لجأنا إليها بعد سنتين من ذلك التاريخ. فكانت أنظمتها الدراسية لا تزال قريبة من الأنظمة الفرنسية. وعلى هذا، كانت المرحلة الابتدائية تنتهي مع آخر الصف الخامس. فيتقدم التلاميذ والتلميذات إلى فحوص عامة موحدة لينال الناجحون والناجحات شهادة كانت تسمى "السرتفيكا".. وكانت سنة السرتفيكا، بالنسبة إليّ، سنة الهستيريا الدراسية إذا جاز التعبير. فقد استنفر الأستاذ فؤاد، ومعه بقية المعلمين محمد الزهوري وعلي صبحية وصدقي البيك ومروان الماضي ومحمد درويش وداود هوين وسلامة الجرجاوي. فكانوا يعلموننا صباحاً ومساءً. ولم يكن مسموحاً لنا ألا نستوعب. كان الأستاذ الزهوري بصورة خاصة يضربنا بشدة وهو يزمجر: "لازم تنجحوا.. غصباً عنكم لازم تنجحوا. عشان أبياتكو الشقيانين.. عشان فلسطين.. بتعرفوا معناة فلسطين. اللي بينجحش بكون بحبش فلسطين.. يعني خاين. وأنا لا أسمح أن يكون بصفي تلاميذ خونة".. ومع ذلك فقد كنا نحب الأستاذ الزهوري الذي كان يلهب رؤوسنا بأدائه الفذ وهو يسرد تاريخ هارون الرشيد وسيف الدولة وصلاح الدين. وذات يوم أتانا ثلاثة أساتذة جدد، كانوا يتميزون بالوسامة والأناقة. إنهم منيب المجذوب ويوسف عرابي وسعيد دباح. وحين كان الثاني قاسياً إلى درجة لا تطاق، كان الثالث ملاكاً مصنوعاً من الرفق والمحبة. أما الأول فقد أصبح، خلال شهر واحد، بطل المدرسة المطلق. وكنا ننتظر يوم السبت على أحر من الجمر، كما يقال في البلاغة، لنسمع كلمات الأستاذ منيب النارية فتمتد فلسطين على مرمى خيالاتنا الغضة، ونكاد نرى صلاح الدين وهو يدك معاقل الغزاة. وكثيراً ما كان يقول: الحرية شجرة تسقى بالدماء، فأعجب لتلك الشجرة المتطلبة وأسرح مع ثمارها التي يجب أن تكون حمراء اللون. أما الأستاذ علي صبحية، بلهجته الرصينة الحازمة، فقد شربنا منه اللغة العربية وقواعدها. وفي سنة "السرتفيكا" حققت مدرسة الشجرة معجزتها البسيطة. فقد نجح التلاميذ جميعاً. وحقق خمسة عشر تلميذاً منهم علامات متميزة. ولم تتأخر المكافأة، فقد تقدم السيد شكري القوتلي ـ رئيس الجمهورية السورية في تلك الأيام ـ بمكرمة كبيرة: لقد فتح أبواب المدارس الحكومية للخمسة عشر تلميذاً. وهكذا وجدتني، في العام التالي، بين وجوه جديدة، وأساتذة جدد، ومكان جديد.. لقد أصبحنا ندرس في المدينة. وكانت الدولة تستعد للوحدة مع مصر، لتصبحا معاً "الجمهورية العربية المتحدة".. ولما كان النظام التعليمي المصري ينهي المرحلة الابتدائية بالصف السادس لا الخامس. فقد أصبح وضعنا محيراً. فنحن في المرحلة الإعدادية من وجهة النظر السورية القديمة. لكننا ما زلنا في الابتدائية من وجهة نظر القانون الجديد. وحلاً للمشكلة، ابتكرت وزارة التربية والتعليم وضعاً استثنائياً لعام واحد. هو أن يوضع تلاميذ الصف السادس في مدرسة واحدة. وهكذا اشتهرنا باسم "السوادس" ليصبح التنافس بيننا ضارياً. فالسباق على المرتبة الأولى ما عاد يخص صفاً واحداً، بل يخص المدرسة كلها.. لكن ما شغلنا عن هذا التنافس شيئاً ما، هو الوضع السياسي الملتهب. فقد طلع في حياة العرب بطل جديد. بطل يتجاوز الأسرة حيث أخي مصطفى، ويتجاوز المدرسة حيث الأستاذ منيب. بل هو بطل الأمة.. وربما العالم. واسمه.. جمال عبد الناصر. وما زلت أذكر عندما قامت الوحدة وزار سورية أول مرة، أنني عندما رأيته عن قرب كاد يتوقف قلبي من السعادة، ولم أعرف أن أنام تلك الليلة.
على أن غمرة الأشواق الوطنية والأحلام القومية، لم تصرفنا عن الإحساس الفادح الفاضح بالفقر الذي يصل إلى حد الجوع أحياناً. وقد تنصرف الذاكرة، بشكل خاص، إلى الفترة التي كان أخي فيها مسجوناً ثم مطارداً. لم يكن لدينا أي دخل منتظم. فأبي شيخ يقرأ القرآن على القبور. ويغسل الموتى. ويسحّر في رمضان. ويتابع معاملات الزواج والولادات. وكانت له تقاليد خاصة به. فهو لم يسع في معاملة طلاق قط.
ويفخر بأنه إذا هاجر من "جنة البلاد" ـ كما كان يسمي حيفا ـ فإنه لن يلبس ثياباً مرقعة. ولن يجور على أولاده فيأخذ مصروفه منهم مهما بلغ به الأمر.
أما الطبلة التي يوقظ النيام على إيقاعها في ليالي رمضان للسحور. فهي لا تبقى عنده عاماً. بل يهبها، بعد رمضان، لأول عرس يقام في المخيم. ولكن هذه التقاليد لم تكن كافية لتغطي احتياجاتنا كأفواه تنتظر الطعام وأجساد تتوقع الثياب. ومع ذلك فقد حيكت الأساطير في المخيم حول الشيخ خضر. قيل: إن عظامه من الذهب، وأنه يرفه نفسه ويترك أهل بيته جوعى. وكان يسمع ذلك فيبدو كمن لا يبالي. ولكنه كان ينفجر في البيت ويفرغ قهره على طريقته. فقد ضربني ذات يوم حتى كدت أموت. وفي الليل، وأنا بين الحلم والهذيان، سمعته يعترف لأمي بأنه بالغ. وأن الدنيا ظالمة.. وقد "أرخت" لهذه الواقعة بقصيدتي "التوبة" المنشورة في مجموعتي "كسور عشرية".. إلا أن الألم الأكبر الذي سببه كل منا للآخر. كان عنوانه "القاضي".. فقد جمعته المصادفة إلى رجل فاضل من حيفا. هو القاضي عبد الرحمن مراد، وربطته به صداقة حميمة. لكن أهل المخيم ما كانوا ليفهموا طبيعة علاقة الشيخ خضر مغسل الموتى.، بالقاضي ابن الأكابر الذي يعيش في شقة فاخرة وسط مدينة حمص. وذات يوم كنت عائداً من المدرسة، فأستوقفني أحد تراب طفولتي، وكان شقياً شريراً لم يكمل دراسته، فسألني: "عبور.. هل صحيح أن أباك يشتغل خداماً عند القاضي؟" وما سمعت شيئاً بعد ذلك. ذهبت إلى أمي وأنا أنشج وأتشنج. كنت اشتم أبي وأشتمها وأشتم نفسي وأبكي. ولم أكن أعرف أي نصل محمّي كنت أغرسه في قلب هذه المرأة شديدة الكبرياء: "لا يا حبيبي.. فقراء نعم. خدّامون؟ مستحيل". وغلطت أمي غلطة العمر، فأبلغت أبي.. ومع أني لم أكن بينهما إلا أنني أستطيع تخيُّل الجرح الذي سببَّته له. فلم يكن أمام هذا الشيخ العنيد إلا عزة النفس. وها هو ابنه المتعلم يطعنه في سويداء قلبه. لم يصارحني بذلك. ولم يضربني بعدها، على كثرة أخطائي.. ولم أعرف الحقيقة إلا بعد أن رحل. يومها سدّد لي ثلاث ضربات دفعة واحدة. الأولى أننا اكتشفنا أنه لم يترك شيئاً من حطام الدنيا إلا ثمن كفنه وتجهيز جنازته. والثانية أنه كان صديقاً ونداً للقاضي الذي كان يحكي لي ذكرياته عنه. أما الثالثة فهو أنه مات قبل أن يعطيني فرصة تقبيل يديه والاعتذار منه وله. وقد أعزي نفسي بأنه كان مخيفاً. وكانت هيبته تمتد إلى أقاربنا أيضاً.
شخص واحد لم يكن يخافه. وإن كان يحترمه إلى حد التقديس. هذا الشخص هو أمي...
إذا كان لا مناص من الوقوف عند الأم، فلابد من العودة إلى البدايات من جديد. والمحرج في هذه العودة هو شأن فني خالص. فلست أضمن الالتباس، لأول وهلة، بين الحقيقة والأسطورة. وعلى هذا فإنني أرفع يدي وأقسم، كما يفعلون في المحاكم، أن أقول الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة. ولكن ما هي حدود هذه الحقيقة؟ هل هي ذكرياتي وأحلامي ـ وربما أوهامي أيضاً ـ وما انتهى إليّ من أحاديث الكبار؟ أم هو ما وقع فعلاً؟ من سيفهم، على سبيل المثال، أن أمي بيعت في طفولتها بيع الرقيق وعادت إلى حيفاها وهي في مطلع الشباب؟.. لنقل إن أباها، واسمه محمد سعيد بدران، كان رجل بَحرْ. وكان مغامراً عبثياً أشبه بدون جوان. وأنه بعد وفاة زوجته ببضعة أيام تزوج من إمرأة ألعبانة تطمع في قواربه الصغيرة الجميلة. وكان غاوي صيد بالطوربيد، فانفجر الطوربيد به في عرض البحر قبل أن يمضي على زواجه أسابيع. ونجحت أرملته الشابة في التخلص من أولاده بأشكال مختلفة. أما كيف تخلصت من أمي فقد كان لمحمد سعيد بدران هذا صديق تركي مسيحي تاجر. فأعطته الأرملة الشابة طفلة الفقيد مقابل ضمان وحيد: ألا تظهر الطفلة ثانية في حيفا. وفرح التاجر بالصفقة. ووجدت الطفلة آمنة نفسها في مدينة أزمير التركية بين قوم غرباء يتكلمون ما لا تفهم. إلا أن جاريةً سوداء عندهم، اسمها منيرة، كانت عربية. وقد أشفقت الجارية على الطفلة وأخذت منها اسمها وما يمكن أن يكون معلومات أولية قد تفيد ذات يوم. وهكذا أصبح اسم آمنة هو "جورجيت" إلا عند منيرة. واتفق لجورجيت أن كانت غاية في الجمال. قوية الحضور، بوجه أبيض مستدير مشرب بالحمرة وعينين شهلاوين وشعر كستنائي.
وكان "شقيقها" الأكبر عمسو ـ وهو اختزال لاسم عبد المسيح ـ يعرف أنها ليست أخته. وقد صارح أمه بمعلومته هذه. طالباً الزواج من تلك العربية. كانت الأسرة أرستقراطية تخاف الفضائح. وتحت ضغط الحرج الاجتماعي طُلب من منيرة أن تبلغ "جورجيت" أنها ليست ابنة هذه الأسرة. ومهدوا لذلك برحلة إلى "أضَنَة" تقوم بها جورجيت برفقة منيرة. وكان على هذه أن تنتهز الفرصة لتبلغ الفتاة بكل شيء، لا بما أو صيت أن تبلغها إياه فقط. وهكذا، خلال ساعة، اكتشفتْ الفتاة أنها "آمنة" وليست جورجيت. وأنها عربية وليست تركية. وكانت هذه الحقيقة زلزالاً. فقد عاشت في بيئة تكنّ كراهية للعرب. ولا سيما بعد أحداث الثورة العربية الكبرى. وتعيش خوفاً من المسلمين بعد المجازر التي تعرض لها الأرمن في تركيا. فكيف تصبح عربية مسلمة في لحظة؟.. لكن منيرة نبهتها إلى أنها لا تملك رفاهية الاعتراض. لأنها إن لم تسلم بهذه الحقيقة فسيتزوجها عمسو الذي كانت تظنه، حتى قبل ساعة، شقيقها. وأصيبت الفتاة بانهيار عصبي.
بعد أسابيع من هذه الواقعة الدراماتيكية، سيزور مصطفى كمال أتاتورك شخصياً تلك الأسرة التي تعيش جورجيت، أو آمنة، في كنفها. وستلقي الفتاة بالقنبلة المعنوية في حضرة باني تركيا الحديثة: أرجوك ساعدني يا سيدي.. فأنا آمنة العربية ولست جورجيت التركية.. وصُعق "أهلها". لكن قرار أتاتورك لا رادَّ له. ففي اليوم التالي سيمر موظف مختص. معه وثيقة سفر وتذكرة سفر لتبحر على ظهر السفينة "أمينة" المقلعة إلى حيفا. وبكل عقد التملك وجنون الغضب سينهال أهل "جورجيت" عليها ضرباً. وسيمزقون منيرة بأسنانهم: "عرب سيس".
في حيفا هبطت الفتاة الجميلة المذعورة من السفينة. وكانت جلبة وفوضى: من هذه الحورية الآتية من بلاد الترك؟.. واهتدتْ إليها خشفة بدران، عانقتْها وبكتْ وصوَّتتْ. إنها ابنة أخي محمد سعيد. كانت ضائعة وردها الله إلينا.. ومساء ذلك اليوم، أحضرت خشفة بدران إلى بيتها قابلة مجربة. ففحصت الفتاة لتتأكد من عذريتها. وفي اليوم التالي أتى شيخ فقال كلاماً لم تفهمه الفتاة. وفي الليل أغلقوا الباب عليها. ودخل شاب غريب الهيئة. له عينان مختلفتان إحداهما سوداء والثانية زرقاء. وصباح اليوم التالي أدركت آمنة، جورجيت، سابقاً، أنها أصبحت ذات زَوْج..
كان من الممكن أن يقتلها الاكتئاب لولا رجل عظيم أحضروها إليه. كان معمماً ملتحياً ويعرف اللغة التركية. كان وجهه سمحاً. واسمه عز الدين القسام. وبدأ الشيخ أبو محمد القسام يهديها ويهدي زوجها. فأسلمت الأولى وحَسُنَ إسلامها. وتاب الثاني، بعد أن كان فتى عربيداً، وأصبح شيخاً.. ولم يلبث أن وضع العمامة على رأسه.
وشيئاً فشيئاً بدأت آمنة تألف وضعها الجديد. وأحبت مدينتها الجديدة حيفا. وتغيّر كيانها بعد أن اكتشفت أنّ لها شقيقين: هما رجا ومحمود. وشقيقة كبرى، اسمها فاطمة.. ولم يبق عليها إلا أن تنجب الأولاد والبنات. فأعطت بنتها البكر اسم "منيرة" تيمناً بالجارية السوداء. وأطلقت على الثانية اسم "أمينة" تيمناً باسم السفينة. وعندما جاء الولد. أرادته مصطفى على اسم أتاتورك ووافق هذا مزاج زوجها الشيخ، فاسم أبيه مصطفى.
من بين السطور تتضح المفارقة. فمن بين أولاد أمي أنا الوحيد الذي لم تعطه الأم اسمه الشخصي. وكان فيها شيء عنيد ضد التسليم بأن أكون عزاء عن أحمد الأول. ولأني ولدت يوم أحد فقد كانت تقول إن لاسمي شبهاً وعلاقة باليوم الذي ولدت فيه، وليس بديلاً لابنها الذي مات محترقاً. وكان أن نشأتُ عليلاً ضعيف البنية، مهملاً منها تماماً في البداية. ومع سنوات اللجوء الأولى إلى مخيم "السكنه" في حمص، أصبتُ بالتيفوئيد. وكاد مرضي يذهب بعقلها. وألقت المسؤولية على إهمالها السابق فصبّت عليّ من الحنان ما يكفي بلداً. كانت تخصني باللحم ـ وهو قليل طبعاً في طعامنا ـ وتحرص على تدفئتي. وتنتصر لي على أخوتي وأخواتي. وكنت أعذِّب أختي مريم التي تصغرني بعامين. بدعوى أنها عسراء، تأكل بيدها اليسرى، وأن يدها تصطدم بيدي كلما أكلنا معاً. ومع أن هذا افتراء صريح. إلا أن أمي كانت تضعني قربها وتضع الطعام في فمي مع أني كبرتُ سناً على ذلك. وعندما رزقت بما يسمى عادة آخر العنقود، أخي كامل، فإن الوليد الجديد لم يأخذ حصتي من الحنان والمحبة والدلال. لم يكن في المخيم كميات كافية من الماء. بل هناك حنفيات عامة خصصتها الوكالة وزرعتها في مسافات متباعدة. كانت أمي تحمل براميل الماء يومياً حتى ينقصم ظهرها. لا لنشرب وحسب. بل لنغتسل: "الفقر من الله لكن الوسخ والنظافة من عبد الله".. ذلك هو شعارها الدائم. ولما كان البيت غرفة واحدة. فحين كان يحل موعد الاغتسال كانت تأمرنا بالخروج إلا من وقع الدور عليه للاستحمام. كان الكبار يستحمون وحدهم. أما الصغار فتشرف على غسلهم بنفسها. أذكر أنها كانت تجعل الماء ساخناً حتى آخر درجة يمكن أن يحتملها الجسم. وكانت تدعك جسدي حتى أشعر أنها تقشرني. كانت ثيابنا قليلة جداً ومهلهلة. لكنها كانت نظيفة باستمرار. وكان الشعار الثاني في البيت: "أولادي لا يلبسون ثياباً مرقعة". والآن أتساءل: أيهما أورث الآخر عقدة الثياب المرقعة.. أبي أم أمي؟
لأن أبي كان مسحراً في رمضان، فقد كان يحرمني ـ ومعي إسماعيل ابن خالي ـ فرحة العيد. كان يجبرنا على أن ندور معه ونطوف البيوت لنجمع الكعك. وكنت أنفجر بالغضب أحياناً ـ أمام أمي طبعاً، فليس لي شجاعة سبع البرمبة حتى أتجرأ على إبداء ولو بعض التذمر في حضرة الشيخ خضر ـ وكان لأمي أسلوبها في المواساة: "غداً يا حبيبي آخذك إلى حيفا.. وهناك يندف الثلج في ساحة الجرينة.. وتأتي جارتنا أم كاملة ـ من أم كاملة هذه؟ ـ فتجعل الثلج دندرمة. ويأتي السعيد أبو أحمد ـ وهو بطل غامض من أبطال خيالها الدائمين ـ بالكعك المحشو بالجوز واللوز، فتأكل حتى تشبع".. لكن هذا الكعك هو عقدتي الأولى في العيد. فالأراجيح منصوبة. والعم أبو جهاد كعوش يأخذ من الأولاد "الأغنياء" أنصاف الفرنكات ومن الفقراء يقبل الكعك ليضعهم في المرجيحة ويهزج فيعم الهتاف أرجاء المخيم: ياولاد محارب.. يويا.. شدوا القوالب يويا.. كنت دائماً، أنا وأختي مريم، من فصيلة الكعك الذي كان يزيد من مهانته أنه مجلوب من بيوت الناس وليس من صنع البيت. وذات يوم حرنت. وبكيت، وتفعفلت في الأرض: أريد أن أركب المرجيحة بالمصاري وليس بالكعك. ومن أين المصاري؟ وماذا تريد من المرجيحة أصلاً يا حبيبي. فغداً عندما آخذك إلى حيفا ستصعد إلى الكرمل. والكرمل هذا جبل كبير قدّ الدنيا. يمشي كل سنة عشرة أمتار أو سبعة أمتار لا أذكر.. ويسألها خيالي المتأجج: إذا كان الكرمل يمشي كل سنة، ألن يأتي يوم يصبح فيه خارج حيفا؟.. وكأنها تنتظر السؤال، فتجيب فوراً: لا يا حبيبي.. الكرمل يمشي سنة من اليمين إلى الشمال والسنة التي بعدها يمشي من الشمال إلى اليمين.. فيبقى في حيفا!
وكان علي أن أمعن النظر طويلاً في الكرمل المرسوم على شاشة مخيلتي. هذا الجبل الذي لا يضاهيه إلا البحر.. وبعد الظهر ستذهب أمي إلى ساحة الحناطير في حيفا فتجلب حنطوراً وتضع البحر فيه، وتحمله إلي، هنا، في المخيم، ستضع البحر وراء منجرة الأستاذ قاسم شريفة. وتتركه لي ساعات لأسبح وأستحمّ ثم تعيده مساء إلى حيفا.. وحيفا هذه قصتها طويلة معنا. أما الآن، فبهذا القدر كفاية.