ما بين القطاع الخاص ... وقطاع الرخاص

كتب د< حسن ابو لبدة
ما بين القطاع الخاص ... وقطاع الرخاص

  داهمتنا "الجائحة الصحية" والاقتصاد يعاني من ركود ثقيل، وليس من المستغرب تهرب السلطة المفلسة من إعلان رزمة إنقاذ إقتصادية دسمة لتاريخه، باستثناء برنامج إقراض للمنشآت الصغيرة والمتوسطة بفوائد أقل من المعتاد. بينما شجعت جهود الإغاثة على مستوى المحافظات، وتوجها رئيس الوزراء بإطلاق صندوق "وقفة عز" في الأول من نيسان لجمع التبرعات من القطاع الخاص وصرفها، "وفق أولويات الحكومة"، لتوفير مستلزمات طبية، والصرف على العمال المتعطلين نتيجة للظروف، والأسر المهمشمة.

توقعنا تسابق المقتدرين من القطاع الخاص، أفرادا وشركات، للتبرع بسخاء تجسيدا لمبدأ التكافل والشعور بالمسؤولية، إلا أن النتائج لتاريخه دون التوقعات، حيث لم تتجاوز حصيلة التبرعات للصندوق 11 مليون دينار حتى نهاية نيسان. في المقابل، فقد حصد صندوق "همة وطن"، الذي أنشأه رئيس الوزراء في الأردن الشقيق في نهاية شهر آذار، 92.5 مليون دينار لنفس الفترة.

منذ إعلان الصندوق، تبارى كثيرون في الإعلام ومناير التواصل الإجتماعي في الضغط على الشركات الفلسطينية والمقتدرين للتبرع بجزء من أرباحهم عن الأعوام السابقة للصندوق، ووصل الحد ببعضهم للمطالبة بقرارات سلطوية لإلزامهم بذلك. وتم توزيع التهم جزافا لدرجة التحريض السافر على القطاع الخاص عموما، الى حد اتهامه بالخيانة وإنكار الجميل، بداعي أنهم وشركاتهم جمعوا الأموال وكدسوا الأرباح خلال السنوات الماضية، وعليهم، كما أعلن مسؤول رفيع ذات مرة، أن "يدفعوا الفاتورة" ويعيدوا جزءً من الأرباح رداً للجميل.

هل يدرك المحرضون أن القطاع الخاص يشغل 66% من إجمالي العاملين في فلسطين، بينما يشغل القطاع العام 20.7% فقط، بمعنى أن هذا "المتهم" يساهم في توفير قوت 3.0 مليون مواطن، مقابل مليون مواطن يعتمدون في قوت يومهم على القطاع العام. بعبارة أخرى، بينما نعتب على معظمهم لتواضع تبرعاتهم، أو غيابها، إلا أن التحريض على القطاع الخاص، بما في ذلك من قبل أطراف رسمية، معيب ويسهم في تثبيط الهمم، خاصة وأن استثماراته في الوطن تواجه مخاطر غير قائمة في العالم، في ظل غياب شبه تام للحوافز التشريعية والسياساتية والمادية. ناهيك عن التعاطي معه غالبا كمتهم في أمانته ومشكوك في وطنيته الى أن يثبت العكس، من بعض الجهات الرسمية وعلى رأسها وزارة المالية. ولا تكترث السلطة بالتحريض عليه، أو تحاول وقفه.

بشكل عام، فإن قطاعنا الخاص وطني بامتياز، يستحق الثناء والتشجيع والمؤازرة والحدى الأقصى من الحوافز والتسهيلات، لقاء قيامه بالإستثمار المحلي في ظل توفر فرص مجزية وآمنة للإستثمار في الخارج، ولكم في حجم التسرب الإستثماري الى تركيا عبرة. بالطبع، فإن الأمر لا يخلو من وجود بعض الشواذ ممن يمارسون أعمالهم بطرق قد تكون غير مشروعة أو غير أخلاقية أو غير مهنية، سواء بالتهرب الضريبي، أو دفع الرشاوي والخاوات أو الغش والتلاعب، وغير ذلك من سلوكيات غير سوية. إن القطاع الخاص بريء من هؤلاء، الذين أسميهم "قطاع الرخاص"، لأنهم آثروا كسب عيشهم وجني الملايين بطرق ملتوية من دم شعبنا وخيانة الأمانة.

بالعودة الى الصندوق وبعد مراجعة قائمة المتبرعين أفرادا وشركات حتى نهاية نيسان، فإننا نلاحظ غياب أسماء لامعة من المقتدرين عن القائمة، ووجود تفاوت كبير بين قدرة بعض المتبرعين وحجم تبرعهم، وتبرع البعض مؤسسيا والإحجام فرديا، وتواضع ملحوظ في حجم التبرعات المؤسسية والشخصية للمستثمرين من أصول فلسطينية في الأردن الشقيق، ممن لديهم استثمارات في فلسطين، وغياب شبه كامل لأي تبرعات من فلسطينيي الخليج.

إن تواضع إيرادات الصندوق يعود الى عدة عوامل، أهمها أنه إنشيء من قبل السلطة (وهذا أمر طبيعي) التي تعاني من أزمة الثقة فيها، وتخوف البعض من تسخير الإيرادات لتغطية مصروفات حكومية، وإرهاق البعض بالتزامات على مستوى المحافظات، وتلكؤ بعض كبار المقتدرين في قطاعات مختلفة في التبرع أو تواضع تبرعاتهم بالمقارنة مع سجل مكاسبهم تاريخيا، ومنافسة الهيئات والصناديق والمبادرات على مستوى المحافظات له، وإحجام البعض عن التبرع لأسباب عقائدية أو سياسية، إضافة لما ذكرت حول شح أو غياب تبرعات مستمثرين في فلسطين ممن يقيمون في الأردن، وتواضع أو غياب تبرعات الإستثمارات الوافدة، خاصة في القطاع المصرفي.

بغض النظر عن موقف أي منا، فإن التبرع السخي للصندوق واجب واطني لنبل أهدافه، وهو يعمل بشفافية واستقلال عن السلطة، أبوابه مفتوحة لمن يرغب بالتحقق من أي معلومة، ويقوده أشخاص مشهود لهم بالأمانة والحرص والإنتماء. أن ظرفنا يحتم علينا السخاء لتوفير موارد ملحة لمن دمرت حياتهم بفعل الشلل الإقتصادي، ويجب أن لا يتخذ المتخلفون من الظروف أو علاقة الصندوق بالسلطة شماعة للنأي عن التبرع. ناهيك عن الأهمية السياسية للتبرع اليوم بسخاء، حيث أننا على مفترق طرق مصيري بما يتعلق بمواجهة صفقة القرن، ونحذر من خوض معركتنا بجيش من اليائسين القانطين المحبطين، مكشوفي الظهر والصدر وبأمعاء خاوية.

إن التحدي ليس بجمع 21 مليون دينار حتى نهاية شهر رمضان، وإنما بإطلاق مخزون النخوة الكامن في قلب كل منا لمضاعفة هذا الرقم بسرعة. لقد أحسن موظفوا مجموعات باديكو ومسار والإتصالات وروابي وغيرها بالتبرع براتب 3 أيام عمل للصندوق مؤخرا، والتي آمل أن تتجاوز 2 مليون دولار، ونرى أن تحذو باقي الشركات حذوها. ستحسن مجموعة الشركات المساهمة العامة المدرجة في البورصة بالتبرع ب 5% من أرباحها الصافية عن عام 2019، أي 15 مليون دولار، وستحسن المصارف الوافدة صنعا لو راجعت تواضع تبرعاتها في فلسطين بالمقارنة مع الأردن، فقد وفرت لها فلسطين ارباحا محترمة تاريخيا، وآن الأوان لرد الجميل. ويحسن العدد الكبير من أبناء شعبنا أصحاب الملايين، الذين جمعوا ملايينهم من استثمارتهم في وطنهم، لرد الجميل. وتحسن مؤسسة التعاون لو جمعت 10 مليون دولار من أعضاء هيئتها العامة وهم مقتدرون، وبينهم كثر من أصحاب الملايين، وتحسن الشركات صاحبة الإمتياز لو ردت الجميل بمبالغ تليق بمردود امتيازاتها المجزي تاريخياً. ويحسن الصندوق لو كثف اتصالاته مع فلسطيني الشتات في الخليج وغيره، ومعظمهم أصحاب ملايين، للجود بمثل ما يقومون به في دول اللجوء.

أخيرا، المطلوب قرع جرس الإنذار بحق المقتدرين متجاهلي التبرع، وتقع علينا جميعا مسؤولية حضهم عل ذلك، دون الإنتقاص من قدرهم أو التشكيك في وطنيتهم. أذكر هؤلاء بأن الصندوق سيعلن كما علمت أسماء المتبرعين قريبا، وعلى هؤلاء أن يدركوا بأن الشارع سيدقق الاسماء والتبرعات وسيكون له رأي قد لا يعجب، خصوصا في ظل الإحباط الشعبي من الدمار الإقتصادي.

أقول لهؤلاء المتقاعسين كما قال أحدهم مؤخرا لأثرياء عمان "حطوا أيديكم بجيوبكم واتبرعوا"