“جريمة بدّو”… هذا ما قال السائق

بقلم: 

التاريخ: 2016/04/11فى :مقالاتاترك تعليق5 مشاهدة

“جريمة بدّو”… هذا ما قال السائق.
الواثق طه

لحظة من عمره هي كل ما يحتاجُ المجرم ليقرر ارتكاب جريمته، ما سيغير حياته للأبد، لحظةٌ تكفي ليُفجع الآخرون الأسويَاءُ بما اقترفَ، ويثيرَ عاصفة استهجان عن أسباب فعلته النكراء، واللحظات في عمر الإنسان، فوارقُ تأخذه إلى منحنيات كثيرة.

أشَرتُ صباحًا إلى سيارة أجرة كي تقلّني إلى عملي، كان سائقها أسمرَ البشرة، خفيف الشعرِ، هادئًا، وكنت متوتّرًا، أشعر بالانزعاجِ وحاجة شديدة للقهوة والسجائر. حشرتُ نفسي وحقيبتي إلى جواره، وأنا أسأله أن يأذن لي بإشعال لفافة تبغ.

ولأنّ الأزمة في رام الله، أزمة المرور، باتت أمرًا مفروغًا منه، وعقابًا لا بُدَّ منه، شرعتُ بتجاذب أطراف الحديث مع السائق، هي عادة عندي… إنّ السائقين، والحلّاقين، وبائعي القهوة يمتلكون الكثيرَ من نبض الشارع، يحفظونه، وهم الأكثر معرفةً بتفاصيله وما يُخفي.

سألني دون مقدّمات إن كنتُ سمعت عن حادثة “بدّو”، قلتُ بالتأكيد، ثم رمقتُه وأنا أضيف: فأنا صحفيّ.

أن تخبرَ الآخرين عن طبيعة عملكَ فهذا يضعك أمام نتيجتين، إمّا أن تخسر الحديثَ في ثنايا التحفظِ والحذر من محادثك، أو أن تكسب من يتحمّسُ لمنحكَ قصته… وبمرور الوقت ستمتلك القدرة على تحديد طبيعة محدّثك من الوهلة الأولى.

“بتعرف؟ إم الأولاد اللي رماهم أبوهم بتكون قريبتي…”، وحدد لي صلة القرابة. كان محتاجًا للحديث عن القصة، ولا يريد أن يصمت، فبادرته بذلك السؤال الذي يشغل بالَ الجميع، لماذا فعل ذلك بأبنائه؟ ما الذي حصل في حقيقة الأمر؟ وقد أجاب بجملة من التفاصيل.

كان الوالدُ الثلاثينيُّ، والد الطفلين اللذين ألقا بهما من الطابق الخامس من بيت في قرية “بدّو”، عصبيّا، وصفه السائق بالمجنون مجازًا حين قلت إني سمعت أنه رجل جيّد. هو أبٌ لطفلة من زواج سابق، ولديه من طليقته أمّ الطفلين ثلاثة أطفال، أكبرهم ولدٌ في الثامنة من عمره، هربَ حين بدأ والده بضربهم فجأة، لينجو من المصير الذي واجهته شقيقته التي توفيت، وشقيقه الأصغر “3 أعوام”.

بعد صمت، قال السائق إنّ أم الأطفال المفجوعة، صاحبة حق الحضانة المسلوب قسرًا، لاقت من العذاب على يدي زوجها ما جعلها تهرب من المنزل قبل عامين، “تصوّر! كان يربطها ليلا ويجعلُ ابنها يبصق عليها…” قال السائق، وأضاف أنها لم تكن قادرة على الحديث وإبلاغ أهلها، لكنّها في نهاية المطاف لم تحتمل، وحصل الطلاق، لتعانيَ فيما بعدُ من رفضه أن تتواصل مع أبنائها، فكلّما حاولت كان يطردها وأهلها فورًا… كلها كانت مؤشرات عن أزمةٍ تحتقن داخلَ قاتل أبنائه.

هل الجريمةُ تنطوي على بشاعة فعلةِ إلقاء الأطفال من علوّ فقط؟ إن في وجع المشهدِ آلامًا لن تفتك سوى بأصحابها، تلك الأمّ التي لم يقابلها ابنها الأكبر بمودة ومحبة، كان معبأً عليها من وجهة نظر السائق، وهو يجلس أمامها في مركز الشرطة، والآن هو في عهده الدولة، بينما شقيقه الأصغر بين الحياة والموت في مستشفى رام الله، وحالته سيئة، وذلك الأبُ الذي لا أتصوّر حالته حين يستفيق من وحلِ ما فعل، وحين تبدأُ ذاته بجلد دموعه النادمة إلى الأبد.

لن أؤكد أو أنفيَ كلام السائق، الذي لم أدرجه كاملًا، إلا أنّ حديثه الذي انتهى، جديرٌ بأن نتوقف أمام مشكلات مجتمعنا وضغوطاته.

الجريمة كانت لحظة جعلتنا نقف أمامها مشدوهين، وصفعت كلّ فلسطيني بحقيقة أننا مرة أخرى كغيرنا، وبيننا كل أولئك المتعبين، والمأزومين، والذين تمتحنهم المشكلات، وبيننا من ليسوا من الأنبياء، أنبياء الصمود والقضية العادلة، وفينا الخلل كما فينا الصوابُ، والإنسانية… لحظةٌ قرّر فيها أبٌ فقد اتزانه أن يقفز بنفسه إلى هاوية من ضياع، وأن يزرع الحسرة في قلبِ طليقته، فيما نحتضن نحن أبناءنا بحب وقلق وخوف.