في توصيف الحالة الفلسطينية

بقلم: 

تشهد الساحة الفلسطينية منذ أكثر من عقدين حالة من الارباك والتذبذب على المستوى السياسي, وتفاقمت تلك الحالة وتجذرت منذ أن وقع الانقسام الفلسطيني على خلفية الصراع السياسي بين حركة فتح وحماس على السلطة, فبات المشهد الفلسطيني على الرغم من ادراك كافة الفصائل الفلسطينية موضع الخلل, يعج بالكثير من الأمراض السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية, والآخذة بالاستفحال يوما بعد يوم دون وضع حد لهذه الأمراض باقتلاعها من جذورها والقضاء عليها بشكل كُلي.

وإذا ما أردنا أن نعطي توصيفا للحالة الفلسطينية, يمكن أن نوجز هذه الفترة الزمنية في عدة مفاصل رئيسية تبدء مع بداية توقيع اتفاقية اوسلو وتشكيل السلطة الوطنية الفلسطينية وبدء جولات متعددة من المفاوضات وتقديم العديد من والأفكار والتحركات إلى جانب طرح المبادرة العربية والمشروع العربي الذي قدم لمجلس الأمن في نهاية عام 2014, والتي جميعها يهدف لدفع عملية السلام بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي لحل القضية الفلسطينية وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي, إلا أنه وبعد مرور أكثر من عقدين لم تسفر تلك المفاوضات والتحركات عن أي تقدم في مسار القضية الفلسطينية, نظراً للتعنت الإسرائيلي والتهرب من كافة الاستحقاقات الدولية والضرب بعرض الحائط لكافة قرارات الشرعية الدولية, وهذا التعنت والانكار الإسرائيلي مدعوم من قبل الولايات المتحدة الأمريكية سياسياً وعسكرياً, ومن جهة أخرى فقد غابت الاستراتيجية الوطنية والاتفاق الوطني حول مسار المفاوضات ومسار العمل العسكري, إلا أنه وعلى الرغم من غياب الاستراتيجية وممارسة كافة أشكال الضغوط على المفاوض الفلسطيني إلا أنه مازال متمسك بكافة الثوابت والحقوق الوطنية الفلسطينية.

أما المفصل الثاني لتوصيف الحالة الفلسطينية يتعلق بالانقسام الفلسطيني والذي مازال مستمر منذ ثمان سنوات على إثر الصراع والاقتتال بين حركة فتح وحماس على السلطة والحُكم, على الرغم من توقيع الطرفين على اتفاق القاهرة (2009 و2011) وتفاهمات الدوحة (2012) واتفاق الشاطئ (2014) والذي أسفر عن تشكيل حكومة الوفاق الوطني, إلا أن الشيطان كان بين السطور, فلم تشكل اللجان المتفق عليها وهي (المصالحة,والحكومة,والأمن,والانتخابات,والمنظمة) ولم ينجز أي منها, وذلك نظراً لبروز قضية الموظفين (موظفي حماس), والتي كانت سبباً في تعثر المصالحة. لقد أسفر الانقسام عن الكثير من النتائج فقد كانت من أبرز نتائجه تراجع مركزية القضية الفلسطينية في كافة المحافل العربية والإقليمية والدولية في ظل كافة المتغيرات والتطورات السياسية في منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص, كما أن من تلك النتائج تفاقم الأزمات في قطاع غزة وتردي الأوضاع الاقتصادية وارتفاع مستوى البطالة والفقر, وانتشار ثقافة التشكيك وتبادل الاتهامات والتراشق السياسي والاعلامي وعدم تقبل الرأي الآخر وإنكار الآخر وتكميم الأفواه وانتهاك صارخ لكافة حقوق الإنسان من حيث حرية التعبير وحرية الرأي وحرية التظاهر والتجمع...ألخ

إضافة لاستمرار العدوان الإسرائيل في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس, (استمرار الانتهاكات الإسرائيلية للمسجد الأقصى ومحاولات تقسيمه زماناً ومكاناً, واستمرار بناء جدار الفصل العنصري ومصادرة الأراضي من أجل التوسع الاستيطاني وهدم المنازل وتفريغ القرى الفلسطينية من سكانها, وارتكاب المزيد من المجازر والإبادة ضد الشعب الفلسطيني, إلى جانب انتهاك كافة الحقوق الفلسطينية وتقييد تنقلهم, واستمرار اقتحام المدن الفلسطينية وشن حملات اعتقال في صفوف الفلسطينيين), بالإضافة لبطء عملية إعادة اعمار القطاع واستمرار الحصار واغلاق معبر رفح.
المفصل الثالث في توصيف الحالة الفلسطينية, مرتبطة بمؤسسات الدولة الفلسطينية وشرعيتها وقانونيتها, فالمادة الخامسة من القانون الأساسي المعدل لسنة 2003 حددت نظام الحكم في فلسطين أنه نظام ديمقراطي نيابي يعتمد على التعددية السياسية والحزبية, فالمؤسسة الرئاسية والتشريعية تخضع للانتخابات الدورية حتى تستمد شرعيتها وقانونيتها, فمنذ عودة السلطة الوطنية الفلسطينية تم تشكيل مؤسسات السلطة فإلى جانب منظمة التحرير الفلسطينية كانت مؤسسة الرئاسة والمجلس التشريعي, فالمؤسسات الثلاثة (المنظمة والرئاسة والتشريعي) تستمد شرعيتها بالانتخابات المباشرة, فقد شهدت فلسطين منذ قدوم السلطة دورتين انتخابيتين للمؤسسة الرئاسية والتشريعية, فالدورة الأولى تم إجراؤها في عام 1996 والدورة الثانية (2005 رئاسية و2006 تشريعية), وفي كلا الدورتين لم يتم اجراء انتخابات لمؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية (اللجنة التنفيذية والمجلس المركزي والمجلس الوطني), وحين الحديث عن الشرعية المؤسسة , فلا يوجد مجالا للشك بأن كافة المؤسسات تفتقد في الوقت الراهن للشرعية والقانونية, فقد حدد قانون الانتخابات 2007 في المادة  الثالثة مدة ولاية الرئيس بأربع سنوات ولا يجود انتخابه لأكثر من ولايتين متتاليتين, وفي المادة الرابعة من نفس القانون تم تحديد أربع سنوات لولاية المجلس التشريعي. وبالتالي ونظراً لحالة الانقسام المستمرة ومرور عشرة سنوات على الانتخابات الرئاسية وتسعة سنوات على الانتخابات التشريعية فقد سقطت صفة الشرعية عن كليهما, وهنا نكون قد دخلنا في قضية انتفاء الشرعية عن مؤسسات الدولة الرئيسية, فوفقاً لاتفاق القاهرة (2011) وبعد أن يتم تشكيل حكومة الوفاق الوطني يتم الدعوة لإجراء الانتخابات!!!. وما يرافق هذه الحالة التراشق المستمر حول شرعية المؤسسات, فمنهم من يرى بأن مؤسسة الرئاسة شرعية والطرف الأخر يراها غير شرعية والأمر ينطبق أيضاً على المجلس التشريعي ومنظمة التحرير الفلسطينية.

المفصل الرابع في توصيف الحالة الفلسطينية مرتبط بالمفصل السابق, وهو التعددية السياسية ودور الفصائل الفلسطينية في الحياة السياسية, فقد أقر البند الأول من المادة رقم (26) من القانون الأساسي المعدل لسنة 2003 على (للفلسطينيين حق المشاركة في الحياة السياسية أفراداً وجماعات ولهم على وجه الخصوص الحقوق الآتية: تشكيل الأحزاب والانضمام إليها وفقاً للقانون). فالساحة الفلسطينية منذ عقود تتميز بالتعددية السياسية على مختلف أفكارها وأيديولوجياتها وتوجهاتها (علمانية وإسلامية) ولكل منها سجله التاريخي الحافل والذي لا يمكن انكاره وتجاهله في مسيرة الكفاح والنضال الفلسطيني في مختلف الميادين والمحافل لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وتحرير كامل التراب الفلسطيني وإعلان الاستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية والدفاع عن الحقوق الفلسطينية. لكن ما يؤخذ على تلك التعددية, أنها لم ترقى لمستوى المشاركة الفعلية والتأثير في الحياة السياسية, فعلى مستوى الانقسام الفلسطيني لم تتمكن كافة الفصائل الفلسطينية التأثير على طرفي الانقسام والضغط عليهما من أجل انهاء الانقسام وتنفيذ ما تم الاتفاق عليه, فقد اقتصر دور تلك الأحزاب على عقد الندوات والاجتماعات التشاورية والمؤتمرات واطلاق الدعوات التكرارية لإنهاء الانقسام دون أن يكون لها موقف واضح وصريح وفاعل تجاه أطراف الانقسام. ففشلت كافة الفصائل الفلسطينية في تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية وفشلت في تعزيز الحياة الديمقراطية والمشاركة السياسية, كما أنها فشلت في ايجاد وصياغة برنامج واستراتيجية وطنية موحدة بين كافة الفصائل للتعامل مع المتغيرات التي تحيط بالقضية الفلسطينية وبالتالي عدم وجود إجماع على تحركات القيادة والتشكيك بها وبجديتها في كل مناسبة.
المفصل الخامس في توصيف الحالة الفلسطينية, يتعلق ببيئة المتغيرات العربية والإقليمية والدولية, ففلسطين جزء لا يتجزأ من هذه البيئة, فقد رهنت القضية الفلسطينية وتأثرت منذ عقود بكافة المتغيرات في تلك البيئة, لقد انعكست مجمل المتغيرات على واقع الحياة السياسية الفلسطينية, فكان لبروز قوى إقليمية وفاعليين جدد من غير الدول في المنطقة دور واضح في التأثير على التوجهات والتحركات والقرارات الفلسطينية, سواء فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية أو فيما يتعلق بالانقسام الفلسطيني, كما ساهمت تلك البيئة المتغيرة في ظهور قضايا ذات أهمية وأكثر حساسية كانت على حساب القضية الفلسطينية.

وأولى المجتمع الدولي أهمية بالغة لتلك القضايا الحرب العراقية – الإيرانية وحرب الخليج الثانية وحرب العراق, والملف النووي الإيراني وتنامي ظاهرة التنظيمات الإرهابية (القاعدة وداعش) وما سمي بالربيع العربي وتبدل وسقوط أنظمة سياسية, والحرب الدائرة في سورية وليبيا, والانقلاب الحوثي في اليمن, والتنافس بين القوى الإقليمية والدولية للسيطرة على منطقة الشرق الأوسط, ومشاريع ومخططات تقسيم منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي, والحروب الطائفية والعرقية والقومية. وأمام هذه البيئة المتغيرة, بقي الانقسام الفلسطيني حاضراً وبقوة دون تدارك طرفي الانقسام خطورة المتغيرات على القضية الفلسطينية, فلجأت القيادة الفلسطينية إلى تجنب التدخل في كافة تلك القضايا وعدم الاصطفاف مع طرف ضد طرف آخر, وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لتلك الدول, والتعامل مع كافة المتغيرات بحذر شديد, حفاظاً على المشروع الوطني الفلسطيني وعلى القضية الفلسطينية, وعلى الرغم من هذا الحذر إلا أن تلك القضايا انعكست بالسلب على جوهر ومركزية القضية الفلسطينية, ورهنها بكافة تلك القضايا.

المفصل السادس في الحياة السياسية يتعلق بالجانب الإيجابي بحصول فلسطين على دولة غير عضو بصفة مراقب في الجمعية العامة للأمم المتحدة في نوفمبر 2012 واعتراف أكثر من 136 دولة بالدولة الفلسطينية وثورة اعترافالبرلماناتالأوروبيةبالدولةالفلسطينية, وتزايد حملات المقاطعة الأوروبية للبضائع الإسرائيلية وذلك كله بجهد الدبلوماسية الفلسطينية في كافة المحافل العربية والإقليمية والدولية.

أمام هذه الحالة الفلسطينية المتذبذبة تأتي الدعوة لعقد اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني, لمراجعة شاملة لواقع الحياة السياسية الفلسطينية وواقع المؤسسات الفلسطينية (المنظمة والرئاسة والتشريعي) وإعادة تقييم لكافة التحركات والاستراتيجيات التي تم اتباعها في سبيل حل القضية الفلسطينية وإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية, كما أن هذه الدعوة تأتي لإعادة صياغة برنامج سياسي وطني واستراتيجية وطنية شاملة جامعة لكافة الرؤى والتوجهات والأفكار, والدعوة لإنهاء الانقسام وتنفيذ ما تم الاتفاق عليه في القاهرة, للوقوف أمام التحديات المحيطة بالقضية الفلسطينية, وكل تلك القضايا موضع النقاش لا يمكن حلها والتوصل لقواسم مشتركة إلا بمشاركة كافة الفصائل الفلسطينية دون استثناء, فعقد اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني ضرورة وطنية للحفاظ على المشروع الوطني الفلسطيني.