بين "ستانفورد" و"أسدود": حديث في التطبيع؟

بقلم: 

تناولت وسائل الإعلام يوم الخميس 19/2/2015 خبرين ملفتين للنظر، وربما يلخصان بعض متناقضات الواقع الفلسطيني، أو مفارقاته، المفزعة. أما الخبر الأول فهو من مدينة أسدود حيث التقى حشد من ما يوصف برجال الأعمال الفلسطينيين برجال أعمال إسرائيليين، وبحضور عدد من ضباط الجيش الاسرائيلي. وجاء الخبر الثاني من الطرف الاخر من العالم، من ولاية كاليفورنيا الأمريكية، وتحديدا من جامعة "ستانفورد".

الجامعة هي واحدة من أبرز الجامعات في العالم، ويدرس في برامجها المختلفة أكثر من 16 ألف طالب وطالبة. الخبر من ستانفورد يتحدث عن تبني مجلس الطلبة فيها لقرار يطالب الجامعة بمقاطعة، وسحب الاستثمارات من الشركات الاسرائيلية التي تمارس أنشطتها في المناطق الفلسطينية المحتلة. "ستانفورد" تكون بذلك قد انضمت إلى 6 جامعات كاليفورنية أخرى تبنت ذات القرارا، ومن بينها جامعة "بيركلي" العريقة (37 ألف طالب وطالبة)، وعشرات الجامعات الأمريكية الأخرى، في إطار ما يعرف باسم حركة ال BDS(حركة مقاطعة، وسحب الاستثمارات من، ومعاقبة إسرائيل).

خبر اجتماع رجال الأعمال الفلسطينيين المشار إليه لا يعد كشفا عن مستور، فقد تكررت مثل هذه الاجتماعات وفي مواقع مختلفة. لا يغيب عن الذاكرة هنا اجتماع رجال أعمال فلسطينيين العام الماضي مع اخرين اسرائيليين وبحضور ضباط من ما يسمى الإدارة المدنية الاسرائيلية، في مدينة نابلس في بيت رجل الأعمال المعروف منيب المصري. الأخير كان قد اجتمع قبل ذلك مع رجل الأعمال الاسرائيلي الشهير رامي ليفي في مستوطنة عتصيون.

إلا أن الاجتماع الأخير في أسدود تميز بمشهدية صارخة، إذ يبدو في الصورة المنشورة عدد كبير من هؤلاء، والذين تباحثوا في "سبل تطوير العلاقات الاقتصادية واليات الاستيراد والتصدير"، وبرئاسة ما يسمى بنائب منسق شؤون الحكومة الاسرائيلية في المناطق الفلسطينية المحتلة.

من الملفت والمفزع حقا، وهنا تكمن المفارقة الأولى، أن تنبري العديد من منظمات وقوى المجتمع المدني حول العالم للتصدي للغطرسة الاسرائيلية عبر حملات المقاطعة المتصاعدة، بينما نوغل نحن الفلسطينيين في توريط أنفسنا بعلاقات التبعية للاحتلال، وتعميق قدرته على التحكم بحياتنا. إن حركات المقاطعة وأولها حركة "بي دي إس" تستند إلى سقف سياسي وأخلاقي أعلى بما لا يقاس من السقف السياسي الفلسطيني الرسمي، ومن الممارسات الفاضحة لشرائح معينة في المجتمع الفلسطيني. إذ تستهدف هذه الحركات تعرية النظام الاسرائيلي برمته، ونزع الشرعية عنه باعتباره كيان عنصري بنيويا في إطار دولة إسرائيل، وباعتباره نظام استيطاني كولونيالي عسكري في سيطرته على المناطق الفلسطينية المحتلة بعدوان العام 1967.

بينما ينطلق الموقف الفلسطيني الرسمي من مسلمة تقول بأن الفلسطينيين لا يستهدفون نزع الشرعية عن دولة إسرائيل، بل نزع الشرعية عن الاستيطان والاحتلال، وكأن الاستيطان والاحتلال قد ولدا من العدم وليسا بفعل مدبر وومنهج على يد دولة إسرائيل. إن الاحتلال والاستيطان هما الفرع للأصل الإحلالي التطهيري العنصري لدولة إسرائيل، ويمثلان مبرر وجودها، ولا مهرب من التصدي للأصل إن أردنا الانعتاق.

على المستوى الأخلاقي (الذي يمكن أن نسميه الوطني، أو الكوني باعتبار رفض الكولونيالية العسكرية قيمة عالمية) فإن ممارسات بعض القوى والشرائح الفلسطينية تسلب نضال الفلسطينيين جزءا كبيرا من صدقيته واستقامته، ليس فقط في أعين حلفاءهم في العالم، بل في أعين المجتمع الاسرائيلي ذاته.

إن مثل هذه الاجتماعات تعزز الشعور السائد في المؤسسة الرسمية الاسرائيلية، وفي المجتمع الاسرائيلي بأن "الحق" حليفهم، وهو الإحساس الذي يؤسس لجزء هام من الدعاية الصهيوينة في العالم الغربي. علينا أن نلاحظ في هذا المجال أن أحد أهم ساحات المواجهة بين "المؤتمر الوطني الإفريقي" -قائد نضال الجنوب إفريقيين ضد نظام الأبارتهايد- كانت على الحلبة الأخلاقية، والتزام كل مكونات الحركة الوطنية في هذا البلد بمنهج نزع الشرعية عن النظام العنصري (باستثناء الزعيم بوتيليزي!!)، ورفض التعايش معه. علينا نحن الفلسطينيين أن نقرر إذا ما كنا نريد الخلاص من الاحتلال أم التعايش معه، وتطبيع علاقاتنا به؟ ولا يفيدنا أن نلجأ لمقارنة إسرائيل بنظام التفرقة العنصرية في جنوب إفريقيا، بينما ننخرط في التعايش والتأقلم مع شروط الاحتلال، وتطبيع علاقاتنا معه. وهذا ينقلنا إلى المفارقة الثانية حول التطبيع.

قبل حوالي الثلاثة أسابيع أعلن عن إطلاق حملة جديدة لمقاطعة بضائع ست شركات إسرائيلية. المبادرة تأتي في سياق حملات متعددة ومتعاقبة، تتصاعد تارة وتخبوا أخرى، تقوم بها العديد من القوى السياسية والمجتمعية الفلسطينية. ودون التقليل من شأن هذه الحملات، أو التشكيك في صدق توجهاتها، فإن اجتماعات مثل لقاء أسدود توجه ضربة في الصميم لهذه الجهود المخلصة. على مستوى أبعد من ذلك، فإن ثمة تناقض خطير نعيشه في هذا الشأن. فالسكوت عن الاجتماعات واللقاءات السابقة التي تمت على مستويات عديدة، بما فيها اللقاءات مع قوى سياسية ورسمية وأكاديمية صهيونية-إسرائيلية، يقدم حصانة لكل من يريد أن ينخرط في التطبيع مع دولة الاحتلال ومؤسساتها المختلفة. يندرج في هذا الإطار اتفاقية استيراد الغاز التي وقعتها السلطة الفلسطينية مع إسرائيل وكانت محل انتقاد واسع في المجتع الفلسطيني ومن قبل فضائل منطمة التحرير الفلسطينية.

من غير المفهوم أبدا أن نطالب بعض الفلسطينيين (جمهورالمستهلكين تحديدا) أن يقاطعوا المنتجات الاسرائيلية، وبنفس الوقت أن لا نرى أي تحرك ذا مغزى جدي، عندما يمارس التطبيع بأخطر صوره من قبل قوى صاحبة نفوذ في المجتمع الفلسطيني. إلا إذا افترضنا أن التطبيع يتحول إلى عمل وطني عندما يكون بمستوى النخب الجديدة (التي تحدث عنها الدكتور إبراهيم أبراش في مقالته المعنونة "انقلاب هادئ وخطير في مناطق السلطة الفلسطينية) وباسم بناء الدولة!!. ويسمى خيانة عندما يمارسه عامة الناس أو قلة هامشية في المجتمع.

هذا ما يمكن أن نسميه تطبيع "ماكرو" محمود، وتطبيع "مايكرو" مذموم"! يأتي اللقاء الأخير في مدينة أسدود بعلانيته الفظة بمثابة رسالة صريحة بأن علاقاتنا مع دولة الاحتلال لم تعد - منذ زمن على أية حال- علاقة  محتل وخاضع للاحتلال، بل علاقة تفاهم على شروط استمرار الاحتلال، وتكييف أنفسنا مع والمساهمة في تعزيز هذه الشروط، وهو ما لم يشهد له تاريخ كفاح الشعوب التحرري مثيلا. يقول الدكتور إبراهيم أبراش في مقالته سابقة الذكر بأن هناك "عملية صناعة لقيادة فلسطينية جديدة  هي نخب ذات سقف سياسي هابط، دون التزام وطني".

ويضيف بأن "هذه القوى الجديدة تتكون من شخصيات متساقطة من الأحزاب الوطنية، ومن أفراد من مؤسسات مسماة (المجتمع المدني)، ومن رجال مال يدخلون الحقل السياسي ليغطوا على نشاطهم المالي المشبوه وليعظموا من أرباحهم". وبقدر ما أتفق مع الدكتور أبراش فإننى أرى عملية  صناعة لفلسطيني جديد: فلسطيني بوعي مفارق للواقع، يخلق مبررات خضوعه ويسوغها باسم الحفاظ على الذات وبناء مؤسسات وهم اسمه دولة لا تعدو كونها كاريكاتور لدولة ذات سيادة تجسد حق تقرير المصير.