ثورة الفتى العامليّ
حاول شبّان عرب، في منتصف القرن الماضي، الانتماء للثورات العروبية والاشتراكية والماركسية، ولجماعات دينية، ليحلّوا مشكلات "الظلم" الاجتماعي والسياسي. وبعد العام 1967، ذهب كثيرون إلى الثورة الفلسطينية.
هاني فحص شابٌ في قرية مثل جبشيت، في جنوب لبنان، ولد في العام 1946، وجد نفسه في مجتمع يتصل بعض أقطابه وأمراء طوائفه بالاستعمار. وفي منطقته، كانت ثمّة قصة عمرها مئات السنوات؛ فزراعة التبغ بدأت هناك منذ العهد العثماني في القرن السادس عشر، وأصبحت مصدر دخل أساسي. وضمن سياسات جباية الأموال، أعطيت شركة "الريجي" الفرنسية في القرن الثامن عشر، احتكار شراء التبغ من المزارعين، وصار على هؤلاء الحصول على رخصة من الفرنسيين ليزرعوا أرضهم! وذهب العثمانيون، وجاء الفرنسيون إلى لبنان وذهبوا، وبقيت الريجي.
تقارب شيعة لبنان مع أبناء مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، على قاعدة التعاطف، والشعور المشترك بالمظلومية، واضطهاد أجهزة الأمن. وفي الجنوب، نشأ حلف في مواجهة الريجي. ويقول معين الطاهر، قائد كتيبة الجرمق في "فتح" (السريّة الطلابية قبل هذا): "أنت الولد العاملي الملتزم بالأرض وبشتلة التبغ، تروي لنا حكاية الفلاح الجنوبي معها، حكايتك أنت، وتربطها بتعاون أبناء المخيم الفلسطيني لتهريب بضع ورقات من التبغ، بعيدا عن أعين الشرطة وشركة الريجي، علّها تدرّ عليه بعض الدخل، بعيدا عن الاحتكار المتوحش الذي ينهش أجساد أبناء الجنوب".
مات هاني فحص قبل أيّام، وبكاه ونعاه ثوّار كُثر، ولُفّ بناءً على طلبة بالعلمين اللبناني والفلسطيني، ورفع أطفالٌ بجوار نعشه علم فلسطين و"فتح". هو قصّة شُبّان عرب وغير عرب ثوّار، رأوا في فلسطين ثورتهم. كان عالم دين شيعيا تخرج من النّجف، ولكنه انفتح على الإنسانية بكل معانيها وثوراتها. كتبَ يوماً مسحوراً عن إقبال البط والطير في نهر الدانوب في فينا، وكيف صارت أليفة مع الإنسان تأتيه لتأكل من كفه، ولا تهرب منها كما في بلدان أخرى. لقد استغرب أنّ في مدارس النجف الشرعية تفاوتا طبقيا بين الطلبة، فدرس هيغل وماركس، وكتب النص الرومانسي.
في سنوات فتوته، سعى فحص ورفاقه للاحتفاء بعاشوراء في قريته، حتى لا يذهب الناس إلى مدينة النبطية، ويشاهدوا احتفال الدم الذي يَجري في هذه الذكرى، فقد أنكروا هذا الطقس. وعندما عاد مطلع السبعينيات إلى لبنان، وجد في "فتح" ضالته، وخصوصاً وهو يتعرف إلى شباب السريّة الطلابية، وينضم إليهم. وهؤلاء الشُبّان لديهم إصرار على أنّ التناقض الأساسي مع الصهيونية، وبالتالي يجب الخروج من الحرب الأهلية. وتحالفوا في محاولة أن تكون الثورة للحب وللأهل. فصاروا مع السيد فحص وموسى الصدر وغيرهما، يَدخُلون القرى التي تتضرر أثناء العدوان، ويعيدون إعمارها، بغض النظر عن انتماء أهلها الطائفي. وهذا أدى إلى كتابة قصة محبة بين الجنوب و"الكتيبة".
ذهب إلى إيران مع انتصار الثورة، معتقداً أنّه صارت هناك دولة ترعى المظلومين والمحرومين. وكان مع ياسر عرفات وهو يزور طهران. لكن السيد فحص لم يَلبَث وقد شاهَد الشُعور القومي والوطني في إيران، أنْ عاد للبنان وللبنانيته التي لا تنفصل عن فلسطينيته، وبقي يكتب، ويحاور، ويناقش، ويتحدى المقولات الدينية المنغلقة، ويتحدث عن حماسه للحياة والحضارة والوطن ودور الدين فيها. وكان جريئا ناقداً يقول: "الدين إذا ما بدّو يجمعنا أنا موقفي منه سيكون سلبي!"، "لنا عيد استقلال واحد يجمعنا، ولكنْ لدينا عيدا فطر، وعيدا أضحى، وعيدا ميلاد، وعيدا هجرة"، مستغرباً أن لا يجتمع الناس على قاعدة التوحيد، وأن يتفرقوا على قاعدة المذهب. وهو القائل بغضب ثوري عن نفسه: "الولد العاملي،لا يلعب، ووراء الحزن الداكن في عينيه مقادير من الغضب".
اشتهر بأنّه يحل مشاكل الزيجات العابرة بين الطوائف، فيجد "حيلاً شرعية" ليزوّج من رفض الآخرون تزويجهم. لذلك ليس غريباً، كما يقول معين الطاهر، أن يوكّل نفسه عندما نفّذت عملية كمال عدوان (عملية دلال المغربي)، لتزويج دلال من عزالدين القسّام على مهر قدره كما قال هو: "النهر والبحر، وحفنة من دم، وسلة من عنب الخليل، وكيس من برتقال يافا وحُلم".
كانت ثورةً لو استمرت، وتطور فيها فكر من روح الماركسي المصري الدكتور محجوب والعلمائي اللبناني السيد فحص، لاستكملت دورها في "تثوير" الإنسان!