خبز وكرامة وقيادة

بقلم: 

تستمر منذ أيام غارات جيش الاحتلال الإسرائيلي على المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة. الأنباء تنقل أخبار سقوط عشرات القتلى،وبينهم أطفال، قضوا محروقين بما نفثته طائرات الموت من نار وقار في مواجهة تمنّاها حكام إسرائيل وصلوا لوقوعها.

الشرق ينام ويصحو على ما كان عليه، ونحن كأننا نستعيد مشاهد الكتاتيب، كما تخثرت صورها في مخيّلاتنا؛ يجلس الشيوخ،وبعضهم أكفّاء، في حلقات يملؤها صبية، وبعضهم مشاغبون عابثون، لا يمتثلون إلّا لعصا الشيخ وللتكرار الذي قال فيه المثل إنّهيعلّم الحمار ولكنّه في الشرق، هكذا يصرخ الندم، لم يعلّم أحدًا، ولم ينقذ من غباء وجفاف وطلسمة مزمنة.

في ذروة تفشّي علامات لوجود أزمة داخلية في مركّبات الحكومة الإسرائيلية، وقعت عملية اختطاف ثلاثة فتية مستوطنين قرب مدينةالخليل. بعد كشف التفاصيل عن هذه الحادثة بتنا نعرف أن قادة إسرائيل كانوا يعلمون أن الخاطفين تخلّصوا من "صيدهم" فيالدقائق الأولى لمسيرة هروبهم، وعلى الرغم من ذلك صرّح عدد من المسؤولين الإسرائيليين بأن فرضية العمل التي توجّه قوّاتالأمن والجيش في مسعاهم لإنقاذ المخطوفين تنص على أنهم ما زالوا على قيد الحياة. التعمّد في تغييب ما كانوا يعرفونه كان مقصودًاوخطيرًا، فهو الذي سوّغ لهؤلاء القادة إطلاق تلك الحملة العسكرية الهوجاء الكاسحة في قرى ومدن الضفة المحتلة، ومكّنهم من تأجيجالرأي العام داخل إسرائيل وخارجها وتهيئة الأجواء لفتح مواجهة ناريّة مع غزة بدأت بالتهديد والوعيد، وتوالت من استدراج إلىاستفزاز ثم تحرّش وانتظار فرصة الانقضاض، وبالتوازي، الاستعداد أيضًا لتلقين العرب الباقين على صدر الدولة وفي أحشائهابعض الدروس والعبر.

ثم جاءت جريمة قتل الفتى محمد أبو خضير، وما رافقها من تفاصيل يصعب على المرء تحمّلها، وكادت أصداؤها أن تفسد علىحكومة إسرائيل مخططاتها المبيتة، ولكن ما هوى على البلدات الإسرائيلية من قذائف طيّرتها غزة، برّر، مرّة أخرى، تنفيذ المخططالعدواني، وكأننا نعود مجددًا إلى فصول ذلك المسلسل الرهيب، ولكن على إيقاعات السامبا وبأجواء موندياليّة مبهرة تحرف أنظارملايين البشر، وتستحوذ بدموع العرب على خسارة منتخبهم البرازيلي.

في الناصرة كان الصباح خانقًا، وكان الأفظع حين وجد أهل المدن والقرى العربية أنفسهم في حالة ضياع، إرباك وتيه. فالأزمةالحاليّة فضحت فداحة ما آلت إليه أوضاع الجماهير العربية، وعلاقة هذه الجماهير بمن كان مقبولًا كقيادة،  بل عليها شبه إجماع حتىوإن كان مثلومًا وركيكًا.

مرّةً أخرى، بدت لجنة المتابعة العليا في واد والناس في واد، وهي لم تستطع وضع برنامج عمل موحّد شامل تقول من خلاله الأقليةالعربية كلمتها فيما يجري من أحداث جليلة، وتحافظ في ذات الوقت على لحمتها وتمنع تمزقها كما هو حاصل الآن.

من جهة ثانية، بدأت مكانة لجنة الرؤساء تتأرجح بشكل واضح وجلي، ويبدو أن هناك من يسعى لتمزيق هذه اللجنة والقضاء علىدورها. فبعد أن سُلخت عنها، منذ بداية تشكيلها، البلدات الدرزية والبدوية وأطرت مجالسها بإطارات منفصلة عن لجنة الرؤساءالعربية، نشهد مؤخرًا محاولات من البعض تشي ببذل مجهود يستهدف إحداث شرخ جديد في وحدوية لجنة الرؤساء، وذلك من خلالتجميع عدد من الرؤساء كقوة وتحالف تعترض على ما كان من  معنى القيادة، وعمّن سيكونون أصحاب الشأن والربط والحل، فاجتماع بعض رؤساء المدن والقرى العربية مع وزير الداخلية الإسرائيلي جدعون ساعر بعد ظهر الثلاثاء في قرية الجديدة المكر،يحمل في طيّاته نذرًا لما هو أبعد من كون ذلك اجتماعًا قد انعقد عن طريق الصدفة، كما صرّح بعض المشاركين فيه والخطباء. فيجبأن تكون تلك عجيبة كي يجتمع عن طريق الصدفة رؤساء الناصرة وعيلبون وشفاعمرو والبعينة والجديدة-المكر.

إلى ذلك، يبقى الأهم ما قيل هناك، وبتصريح بعض المشاركين ورؤيتهم لأنفسهم قيادةً للجماهير العربية، وأنها قادرة على ضبطالشباب العرب ومنعه من ممارسة أعمال الشغب والتخريب. وهم لذلك، يشجبون التطرف العربي أسوةً بشجبهم للتطرف اليهودي، ويتوجهون للوزير وللدولة من أجل تمكينهم على النجاح بمهامهم، وبطلب المساعدة وضمان التنسيق الأمني الذي من شأنه أن يضعحدًا لظواهر الانفلات والشغب كما تجلّت في مظاهرات الناصرة وطمرة وغيرها من البلدات العربية.

ما زالت أصداء المعارك الانتخابية المحلّية في المدن والقرى العربية تملأ فضاءات بلداتنا، والكل ما زال يتذكر مَن مِن الأحزاب دعمالرؤساء المنتخبين ومن أوصلهم إلى سدة الحكم، واليوم ، أخال، أن المجتمع العربي يدفع ثمن تلك العلاقات المريبة التي سادت بينبعض الأحزاب والحركات السياسية وبعض المرشحين الذين رُشّحوا باسم طائفة أو عائلة أو مصالح مالية وأخرى، ولذا سيبقى السؤالصارخًا: بأي شرعية سيواجه حزبٌ رئيسًا انتخب بدعم كوادر وقادة هذا الحزب وأمواله، وبأي صِدقية ستشكك حركة ما بوطنيةوشرعية رئيس ما  يدّعى القيادة التي ظفر بها، وهو مرفوع على أكتاف حلفائه من القادة الوطنيين.

تفاعلات العدوان على غزة والضفة المحتلة كشفت أمامنا اليوم أزمة القيادة بكامل تفاصيلها وما تستثيره من قلق وتخوف، وتكشف،كذلك، حدود التباين في مواقف من يدّعون قيادة الجماهير، الجدد منهم والأقدمين، فالقضية، بنظري، ليست في تعريف ما هو الشغبوما هو الاحتجاج، وأيهما واجب ومتاح، وأيهما محظور ومباح؟ القضية كانت وستبقى: من يعرّف ماذا؟ فالقيادة هي القضية، وهذه لنتكون حقيقية وأصيلة وقادرة إلّا إذا اكتسبت شرعيتها من أرضها ودافعت عن مصالح الناس الحقيقية، ففي البدايات كانت قواعد نضالنامحكومة بزمانها ومكانها، وحين ألغينا الزمان وأغفلنا أهمّية المكان ولدت المشكلة، وعندما أمسى الوطني "ذنبًا" لرأس وافد حديثًا إلىسوق الرؤوس، وبوقًا يصدح بنصر أهشّ من قشة، تاه الشعب المناضل وضل الفرق بين البيان والميدان والزجاجة والعصا؟ فالشعب،في البداية والنهاية، يسعى من أجل اللقمة والكرامة وينتظر قيادة.