فلسطين والثورات العربية في كتاب
هو كتاب «الصراع العربي الإسرائيلي في ضوء المتغيرات العربية والإقليمية» من تأليف مجموعة من الباحثين المرموقين(). يتناول، ليس «الصراع العربي الاسرائيلي»، كما لا يوحي عنوانه، إنما موقع القضية الفلسطينية في عدد من البلدان والكتل العربية وغير العربية: مصر، سوريا، الأردن، لبنان، دول مجلس التعاون الخليجي، فضلا عن إيران وتركيا؛ وذلك قبل وبعيد الزلزال العظيم الذي يضرب بالعالم العربي، والذي يسميه العنوان، تلطيفاً ربما، «المتغيرات العربية».
يجهد الميل العام للكتاب الى التبيان بأن مركزية القضية الفلسطينية لم تتزحزح من مكانها. بعضهم يروي هذه الصلابة من خلال حركة القضية وتفاعلها مع القضايا الداخلية بنوع من الديناميكية العكسية (الأردن)، وبعضهم الآخر أورد أمثالا ميدانية عن حيوية هذه المركزية ضمن الثورة نفسها (مصر)، والآخر وصف مشاركة المخيمات الفلسطينية في الثورة السورية (سوريا)، واقتصر آخرهم على وصف الهدر غير الإنساني لحقوق الفلسطينيين المدنية والحياتية (لبنان)، أو عرض لسياسة كتلة الخليج تجاه القضية (مجلس التعاون)، أو، أخيراً، تناول موقف دول الجيوستراتيجية إزاء القضية (تركيا، إيران). والغالبية، مدفوعة ربما بموقف أخلاقي عميق تجاه القضية، لم يتناول الوجه الأكثر رواجاً للقضية؛ أي بصفتها «ورقة» استهلكت زمناً وطاقات وخسارات، من أجل تثبيت زعامة أو سلطة، هي دائما غاشمة. وذلك بآلية باتت محفوظة؛ من ان الشعوب لها موقف عاطفي تضامني عميق ومتجذر مع القضية الفلسطينية، وان هذه العاطفة استغلها الجميع، وحتى الثمالة، من السلطات قائمة أو السلطات المضادة، أو تلك التي في طور التشكّل... ودائما من أجل مشاريع وتطلعات تبتعد سنوات ضوئية عن عدالة القضية وإنسانيتها الكونية. بل تجد في إحدى الصفحات الخاصة بمصر، وبعد ثورتها على نظامها، من يقول ان اسرائيل مسؤولة عن «تردّي الأوضاع في مصر»: من إفتقارها الى الديموقراطية، الى صعود التشدّد الديني فيها، وتراجع اقتصادها، وسيطرة العسكريين عليها... كل هذا من صنع اسرائيل. وهو لا يرى معضلة ولا تناقضاً، بعد ذلك، بالقول ان «لا حل للمشكلة الفلسطينية التي هي لبّ قضية الشرق الأوسط إلا بالقضاء على أسباب الضعف العربي»...
الذين اجتهدوا لتبيان إستمرار هذه المركزية، بنوع من الإرادوية الطيبة، لم يوفَّقوا تماماً. حول مصر مثلا، كانت دلائل هذا الدوام ثلاث فعاليات، هي تظاهرات ذكرى النكبة وحادث الحدود وأحداث السفارة الإسرائيلية في القاهرة. وجميعها كان قليل التأثير على ديناميكيات المرحلة الإنتقالية لمصر بعد الثورة، الى حدّ انها تلاشت بعد حين... وانقلبت الآن الى النقيض. مشكلة مصر مع اسرائيل ليست مركزية القضية، إنما إتفاقية كامب ديفيد، التي يدور حول بنودها احتجاج، يعلو ويخفت حسب المناخ، على انتقاصها من السيادة المصرية. على كل حال، لم تنحُ كل المساهمات هذا النحو. اذ تجد في متن الكتاب قولا آخر، من ان الشغل الشاغل الآن للشعوب العربية ليس كسب الصراع مع اسرائيل...
في الكتاب غيابات أيضاً: من الغريب جداً مثلا أن يكون الفصل المخصَّص للبنان مقتصراً على وصف حال اللاجئين الفلسطينيين فيه. صحيح ان ما يعانيه الفلسطينيون في لبنان لا يمتّ الى الانسانية والمدنية والحق بصلة. لكن التاريخ الفلسطيني في لبنان، فضلاً عن حاضره، لم يكن حقوقاً مهدورة وحسب. إنما كان دوراً سياسياً وعسكرياً بارزاً، رسم ملامح مرحلة من لبنان تمتد من العام 1969 وحتى الآن، وبوجوه ودرجات مختلفة. الفلسطينيون كانوا محرومين من الحقوق المدنية والمعيشية، ولكنهم كانوا معززين مكرمين بحقوقهم الأخرى، التسلّحية، تلك التي تحرك تاريخاً وتصنع أحداثاً. من التحامهم بالحركة الوطنية اللبنانية وحتى خروجهم الأول (1982) والثاني (1985)، وكانوا من بعد ذلك وقودا وورقة، وربما هم الآن كذلك، أو بالأحرى، قد يجرّون إلى المزيد من ذلك. ولكن الغياب الأفدح في الفصل اللبناني كان ذاك الذي يخص «حزب الله»، الذي يصب في نهر إيران الجيوسياسي. وعن علاقة هذا الحزب، المتحكم بالديناميات اللبنانية، بالقضية الفلسطينية، بالقدس، الذي سوف يحرّرها ومن بعدها يلقي السلاح؛ ولكن أيضا بالفلسطينيين كبشر، أصحاب حقوق، مدنية سياسية مع فصائلهم المختلفة. والخلاصة التي كان يمكن النفاذ اليها، أو جوابا على العنوان الأصلي: من أن الفلسطينيين وقضيتهم كانوا في تاريخ لبنان الحديث منبت صراعات لبنانية وعربية، لم تتقدم بفضلها القضية الفلسطينية قيد أنملة.
غائب آخر عن الكتاب: الفلسطينيون أنفسهم والثورات العربية. كل ما كُتِب عن هذا الموضوع لا يتجاوز البضعة أسطر: من ان الحراك الشبابي العربي عندما بدأ في 15 آذار 2011 كإنعكاس للثورات العربية، تمت السيطرة عليه بالقمع الناعم في الضفة والقمع الساخن في غزة، على الرغم من انه لم يطرح إسقاط النظام أو السلطتين، إنما تمحور حول شعار «إنهاء الانقسام» (ص 203). بعد ذلك ابتهاج برحيل مبارك، ثم لا شيء... ماذا عن تطور خفوت هذه الفعاليات؟ ماذا عن تعبيراتها غير المباشرة؟ عن طاقاتها الحية؟ أو الغافية؟ أين تذهب؟ ماذا عن توحّد كلماتها؟ عن أوجه انقسامها؟ عن صلة الإنقسام بالخفوت؟
غائب أخير: أو قل نصف غائب. هو موضوع القضية الفلسطينية والبعث؛ أو البعث والأراضي السورية المحتلة. أليس هناك من كلام يصف الطريقة السمجة التي سخّر فيها بشار الأسد، في بداية الثورة ضده، «القضية» بتظاهرات «عفوية» الى حدود فلسطين، بمناسبتين ما زال جرحهما غائراً، هما ذكرى النكسة ووعد بلفور؟ وما تبعها من خسائر بشرية؟ «شهداء» يقولون. شهداء الكذبة البعثية. كما كان عليه لبنان، أو ما زال: أرض تمارين على عرض العضلات أمام إسرائيل... بأدوات وحزب، والأهم، بعقيدة «تضع فلسطين والقدس في قلبها».
ولكن الكتاب معذور. حظه لم يسعفه. بعد تأليفه، حصلت أشياء كثيرة. الثورات العربية ومراحلها الإنتقالية، ومنها مرحلة فشل أهم تجربة إسلامية، الإخوانية المصرية، وصراعها، مع أخواتها، من اجل البقاء. تختلط تلك الثورات ومراحلها الانتقالية تختلطان بمراحل تالية متأخرة، لا تنسجمان معها بالضرورة، ولها إرتدادات تذهب في كل الإتجاهات... ولكنها أيضا كاشفة، خصوصاً في سوريا. ومشاركة «حزب الله» مع قوات الأسد في مقاتلة الثورة، بكل تشوهاتها، في حرب مذهبية إقليمية مفتوحة الحدود على ايران والعراق. كيف يمكن على ضوء هذا «التحول» بالوجهة، من اسرائيل، الى الداخل اللبناني، ثم الى الداخل السوري... كيف يمكن تقييم هذا «التحول»، من الزاوية التي اختارها الكتاب؟ نهاية علاقة «حزب الله» بالقضية الفلسطينية؟ أو أواسطها؟ أو بداياتها؟ مع ايران، ماذا يمكن القول؟ بعدما عصرت الورقة الفلسطينية وسخّرتها للنووي... وها هي الآن تستقتل من أجل حماية موطىء قدمها الداخل في حساباتها الجيوسياسية؟ وعلى خلفيتها، التراجع عن تنبؤاتها بـ»نهاية اسرائيل».
في الفصل المتعلق بالقضية ودول مجلس التعاون الخليجي، مغالاة في الإنكباب على الجانب المالي من العلاقة، وأثره على المواقف. فبالإضافة الى عدم متابعة أمر هذه العلاقة إلا بما هو بائن منها، معروف بل صارخ، أي المال، بالاضافة الى ذلك، لا يذكر كاتب هذا الفصل أية دورة عرفتها هذه العلاقة، من تلك الدورات التي تؤسس لعهد، أو لحقبة. لم يتكلم عن نشأة «فتح» في الكويت في ستينات وسبعينات الماضي، إحتضان الكويت للتجربة بأنصارها وزعيمها ياسر عرفات، بعلاقة هذه النشأة بالإخوان المسلمين، بحرب اكتوبر 1973، والدور الذي لعبته دول الخليج بقطعها لنفطها الذاهب الى دول الغرب الداعمة لإسرائيل، بالذي حلّ بفلسطينيي الكويت بعد غزو صدام حسين لها عام 1990... بتنقل التمويل بعد ذلك من دولة خليجية الى إمارة الى مشيخة... وهي محطات تعلّمنا شيئاً عن تفاعل القضية وأصحابها، مع كل صُدَف التاريخ والمطامح والمغانم...
قلنا حظ الكتاب سيء، بسبب السيولة العارمة للحالة السياسية العربية. فبعد سقوط التجربة الإخوانية في مصر، لم يعد لتنبؤات هنري كيسنجر أي موطىء قدم، إذ نقل عنه الكتاب بأن الشرق الأوسط الجديد الآخذ بالتكون سوف يكون «تحت مظلة دينية» (ص 190)؛ وقد اعتمد الكاتب على نبوءة كيسينجر ليبني عليها أول السيناريوهات التي يتوقعها في مستقبل قريب، وهو سيناريو «سيطرة الإتجاه الاسلامي على السلطة الفلسطينية»...
هو حظ سيء ولكنه مفيد؛ فقراءة هذا الكتاب تحثّنا على تأمل كيفية تفاعلنا مع الحدث المباشر، وتدرّبنا على التقاط مواطن قصورنا عن التوقّع الصحيح. فوق انها تفتح بنفسها أبواب الأسئلة الملحة التي تطرحها أحداث من نوع سقوط الإخوان على مجمل القضية الفلسطينية بأطرافها الفاعلة، الثانوية منها والرئيسية، «الرابحة» منها و»الخاسرة». مصير «حماس» بعد سقوط نظيرتها الإخوانية المصرية، مصير الفلسطينين بمجملهم بعد تصاعد الحملة الشوفينية ضدهم في مصر. مصير أسلمة القضية الفلسطينية، ومراحل علاقتها بالأقطاب الاسلامية المتنافرة، تركيا، ايران، دول الخليج. بعدما أضيف الى تدخل ايران العسكري مع حزب الله في الحرب على الشعب السوري، مقاومة تركيا لإنهيار الاخوانية العربية، أو على الأقل أفول نجمها، أو إنتقالها القادم نحو العنف السافر... هل يأخذ الصراع مجرى جديد؟ هل تتكوّن الاصطفافات بعبارات اخرى؟ وفي أي موقع ستكون عليه القضية نفسها، وماذا يحل ببشرها؟ ماذا يفعل مثلا أهل غزة بالحصار الأشد، بعد مبارك، الذي يتعرضون له الآن؟ عمليات انتحارية؟ تقارب مع السلطة؟ تكوّن سلطات شبابية جديدة؟ وحول ماذا؟ والأسئلة نفسها هذه يمكن أن تُطرح على جميع البلدان التي غطاها الكتاب. ففي تلك البقعة المفتوحة على بعضها، لبنان، سوريا، فلسطين، وما تشهده من تمزقات ومن خطوط تماس جديدة متغيرة، كيف تطرح قضية الفلسطينيين؟ السياسية منها والإنسانية؟ هل تختفي أم تتوهّج أم تغفو برهة عن التاريخ الصاخب هذا؟