مخيم اليرموك: ذاكرة وطن

بقلم: 

 

إن ما نشاهده يحدث للفلسطينيين في سوريا هو أكبر من نكبة وكارثة إنسانية موجعة.. من كان يظن أن الفلسطينيين الذين حطوا رحالهم في سوريا بعد نكبة 48، وكانوا يعيشون حياة آمنة مطمئنة وحالة متميزة تختلف عن كل محطات اللجوء والتشرد في العالم العربي، سينتهي بهم الحال إلى هذه المأساة بكل أبعادها الحزينة الدامية، والتي تورطت فيها - وا أسفاه - أطرافاً من الجيش النظامي السوري وبعض "التُبَّع" من الفلسطينيين هناك، حيث فقد الكثيرون من هؤلاء القتلة آدميتهم، واستباحوا حرمات هؤلاء الآمنين، وفتحوا الطريق لأنصار النظام وكل من يحمل السلاح لممارسة هوايته في الذبح والتعذيب، وكأن الفلسطيني في ذلك المخيم حقل تجارب للبراميل المتفجرة وسادية أزلام النظام.

 

إن مخيم اليرموك هو "عاصمة الشتات" كما يحلو للفلسطينيين تسميته، إذ أنه يحتوي على أكبر عدد من اللاجئين الفلسطينيين، بالمقارنة مع وجودهم في باقي مدن ودول العالم.. إن في المخيم اليوم مآسي يندى لها الجبين، حيث الجوع والقتل والسحل والحصار، والانتهاكات التي لا يمكن تصنيفها - حسب المعايير الدولية - بأقل من درجة أنها "جريمة بحق الإنسانية".

 

إن مخيم اليرموك هو أيقونة المخيمات الفلسطينية في الشتات، وما يجري اليوم في المخيم يعيدنا إلى ذكريات النكبة الأولى في عام 1948م والنكبة الثانية عام 1967م، حيث كان الفلسطيني يخرج من أرضه ودياره هائماً على وجهه طلباً لمكان آمن يلجأ إليه.. إن مشاهد الجوع والتدمير والقتل والحصار في مخيم اليرموك تحرك فينا كل مواجع الماضي وأحزانه، وتأسر الدمع في مآقينا من شدة الحسرة والألم على أهلنا وأحبتنا هناك. كان مخيم اليرموك في مشاهدات الفلسطيني وذكرياته هو موطن كل الثوار، فكل العناوين الكبيرة والقامات النضالية والرموز الوطنية والإسلامية لها موطن قدم هناك، لقد كان المخيم بأزقته وحواريه الجميلة هو الركيزة الأولى لكل فصائل العمل الوطني والإسلامي؛ فهناك تجد مكاتب إدارية لحركة فتح والجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية وأخرى لحركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي، ولكل عناوين النضال الفلسطيني ستجد شقق ومحلات تجارية ومراكز ثقافية، وهناك "مقبرة الشهداء" حيث رفات الكثير من قياداتنا الفلسطينية، أمثال: خليل الوزير (رحمه الله) والذي قامت بتصفيته خلية تابعة للموساد الإسرائيلية في تونس بتاريخ 16 نيسان 1988م، والأخ د. فتحي الشقاقي (رحمه الله) أمين عام حركة الجهاد الإسلامي، والذي استهدفه جهاز الموساد الإسرائيلي وهو في طريق عودته من ليبيا إلى سوريا عبر جزيرة مالطا بتاريخ 26 تشرين الاول 1995م، وكذلك الأخوين عز الدين الشيخ خليل ومحمود المبحوح؛ من كتائب الشهيد عز الدين القسام، واللذين اغتالتهم يد الغدر الإسرائيلية في دمشق ودبي عامي (26 ايلول 2004م) و(19 كانون الثاني 2010م).

 

ماذا ستكتب صفحات التاريخ عن مأساة أهلنا في اليرموك، عن الجريمة والجناة، عن النظام وجيشه وأجهزته الأمنية، وعن كل المتورطين من عرب وعجم، وعن الذين استباحوا حرمات المخيم وأعراض الحرائر فيه، وعن الذين أذاقوا أهلنا من صنوف العذاب ألواناً، وعن الذين دفعوا أطفال المخيم ليبحثوا بين خشاش الأرض ما يحفظ رمق الحياة ويقيم الأود، وعن الذين ولغوا في دم الأرامل والثكالى وأذهبوا هيبة الناس وكرامتهم بمشاهد البكاء والتسول والتدافع خلف العربات وقوافل الإغاثة الإنسانية.

 

مخيم اليرموك: زيارات خاطفة وذكريات

 

كانت أول زيارة أقوم فيها إلى سوريا هي بعد مشاركتي في المؤتمر التأسيسي لمؤسسة القدس الدولية والذي انعقد في العاصمة اللبنانية بيروت نهاية شهر كانون الثاني 2001م، حيث كنت أحد الأعضاء المؤسسين.. وبعد انتهاء المؤتمر سافرت خلسة إلى دمشق ولمدة 24 ساعة، حيث التقيت عدداً من قيادات المكتب السياسي في مكتب الحركة بمخيم اليرموك، والذي كنت أشاهد معالمه للمرة الأولى في حياتي، ثم عدت في صبيحة اليوم التالي لبيروت مع رغبة جامحة في زيارته مرة ثانية.. لقد كان جدول زيارتنا للبنان مكتظاً، فهناك بعض الترتيبات للالتقاء بعدد كبير من الشخصيات الاعتبارية والرموز الوطنية والإسلامية في بيروت، من بينها سماحة السيد محمد حسين فضل الله، والسيد حسن نصرالله، والإخوة في الجماعة الإسلامية الأستاذ إبراهيم المصري والشيخ فيصل مولوي والشيخ مالك الشَّعار، وأيضاً إخواننا الذين جاءوا من الكويت والجزائر ومصر واليمن وباكستان وفلسطين والسودان وسوريا وموريتانيا وتركيا وإيران ومن إندونيسيا وبريطانيا.. كان لبنان في تلك الأيام يعج بأكثر من مائة وخمسين شخصية إسلامية ما بين علماء ومفكرين ونشطاء حركيين وقيادات سياسية ودينية رسمية وشعبية.

 

كانت تلك الأيام تشهد أروع تجليات التعاطف الإسلامي مع حركة حماس ومع فلسطين؛ الشعب والقضية.

 

عدت مرة ثانية إلى لبنان عام 2004م قادماً من الجزائر، حيث مكثت عدة أيام في ضيافة مؤسسة القدس الدولية لتنسيق بعض الأعمال، وكذلك للمرور على مكتبات بيروت العامرة بالكتب والإصدارات الحديثة في مختلف فروع المعرفة والعلوم الإنسانية، بحثاً عما أحتاجه من مصادر لما كنت أقوم به من أبحاث.. ومن هناك، سافرت مرة ثانية إلى سوريا بترتيبات بين الحركة وحزب الله، حيث اتيح لي فرصة اللقاء بمعظم أعضاء المكتب السياسي والكثير من الاصدقاء بمخيم اليرموك، والذي وجدت فيه حاضنة للتاريخ والتراث والهوية والنضالية الفلسطينية.. وبالرغم أن الزيارة كانت خاطفة، إلا أنني علمت الكثير عن حياة أهلنا هناك، وأن الفلسطيني في سوريا – بشكل عام – يتمتع بمستوى معيشي لا بأس به، كما أن فرص العمل أمامه متاحة مثل أي مواطن سوري آخر.

 

في منتصف عام 2004م، غادرت الولايات المتحدة بشكل نهائي إلى الجزائر، حيث استقر بي المقام هناك.. وبعد شهرين من إقامتي هناك، سافرت إلى سوريا، وكانت هذه الزيارة هي الثالثة لدمشق، حيث قدمت بشكل رسمي مباشرة من الجزائر للمشاركة في دورة سياسية مع نخبة من قيادات الحركة وممثليها في الدول العربية والإسلامية، ثم كانت لنا بعد الدورة سلسلة من اللقاءات والزيارات لبعض المؤسسات الإعلامية والإدارية التابعة للحركة في المخيم، وأيضاً مقابلات مع شخصيات اعتبارية وإعلامية سورية، وعناصر من كوادر حركة حماس التي حطت رحالها في سوريا إما للدراسة أو العلاج.. في تلك الزيارة، كانت محطتي الأولى هي مخيم اليرموك، وطلبت من السائق أن يأخذني إلى "مقبرة الشهداء"، حيث يرقد جثمان الأخ الشهيد فتحي الشقاقي (أبو إبراهيم)، والذي جمعتني به سنوات الدراسة في ثانوية بئر السبع قبل وبعد نكسة 67، وكان بيته بمخيم الشبورة في رفح بمثابة "دار الأرقم"، والذي كنا نجتمع فيه معظم أيام المساء لعقد جلساتنا الفكرية والتنظيمية كشباب إخوان مسلمين.. وفي عام 1969م سافرنا أنا والأخ فتحي إلى الضفة الغربية للدراسة، وكان الأخ فتحي (رحمه الله) هو المسئول التنظيمي عن شباب الإخوان من قطاع غزة؛ حيث كان يتواجد عدد من الطلاب الذين وفدوا من القطاع للدراسة في معاهد الضفة الغربية، مثل: معهد بير زيت ومعهد المعلمين التابع لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) برام الله، وأيضا معهد اليتيم العربي في بيت حانينا وكذلك مدرسة الأقصى الشرعية بمدينة القدس. ثم كانت سنوات الدراسة في مصر بداية السبعينيات، حيث لم تنقطع لقاءاتنا التنظيمية لأكثر من ستة سنوات، كان يأتي فيها الأخ فتحي (رحمه الله) شهرياً من الزقازيق للقاهرة لزيارة إخوانه وأصدقائه وشخصيات إخوانية إعلامية مصرية، وأحياناً للمشاركة في الاجتماع القيادي للحركة.

 

إن د. فتحي (رحمه الله) كان أخاً متميزاً بيننا؛ فهو واسع الثقافة والاطلاع المعرفي، ويتمتع بكاريزما إنسانية عالية، وصاحب بسمة ضاحكة تجعلك تأنس للجلوس معه ساعات بلا ملل، لقد كان يمثل بين أقرانه مدرسة فكرية، وهو صاحب قلم وأدب وعمق في الرؤية والتحليل، كان - بحق - سابقاً لزمانه؛ بشخصه وعمله.

 

هذا الشريط الطويل للذكريات مرَّ من أمامي وأنا أمام قبره أقرأ الفاتحة وأدعوا الله لي وله، سائلاً المولى (عزَّ وجل) أن يكرمني بالشهادة في سبيله، وأن يجعل لنا مثله مأثرة وأثر.

 

لقد كانت هذه الزيارة لمقبرة الشهداء هي بمثابة "وقفة وفاء" لمن باعدت الغربة بيننا منذ أن افترقنا عام 1979م، وظل التواصل بيننا مقصوراً على قراءة ما يكتب كل منا في المجلات الإسلامية والنشرات التنظيمية والصحف الفلسطينية، مثل مجلة "طريق فلسطين" و"فلسطين الغد" و"الطلائع الإسلامية" و"فلسطين المسلمة"، ونشرة "الإسلام وفلسطين" و"الأمة" و"السواعد الرامية"، والمجلة الفصلية "قراءات سياسية" و"دورية شئون الشرق الأوسط".. الخ

 

لقد دمعت عيني مع خبر اغتياله في مالطا، وأحسب أن الحركة الإسلامية في ساحتنا الفلسطينية قد فقدت بغيابه قيادة تستحق منا ومن شعبنا كل التقدير والاحترام، فبصماته في مشروع الجهاد والمقاومة شاهدة له؛ فقد صَدق القول وصدَّقه العمل، فقد كان أيامه بعد "عملية بيت ليد" الاستشهادية بتاريخ 22 كانون الثاني 1995م، وتهديدات رابين له بالقتل يعتقدها البعض أنها معدودة، ولكنه عاش بلقب "الشهيد الحي" أكثر مما توقع، إلى أن أكرمه الله بالشهادة التي كان يطلبها عمره كله.

 

لقد كانت زيارتي لقبره في مخيم اليرموك هي لحظة وداع لأخ أحببته من كل أعماقي، ولكنه غادرنا وأنا بعيد في أمريكا، وفي لحظة لم أكن قادراً فيها على السفر للمشاركة في جنازته المهيبة إلى مثواه الأخير في "مقبرة الشهداء".

 

اليوم، وبكل فخر أخاطبك: يا أخي يا أبا إبراهيم.. إن غزة – بلد ملاحم البطولة والعزة – هي نبت عملك الصالح الذي لن ينقطع أجره؛ بوركت حياً، وبوركت شهيداً، وبورك غرسك الطيب الذي أثمر "جهاديين" وطلاب شهادة بالألاف من أبناء فلسطين.

 

لم تتوقف زياراتي لسوريا ولمخيم اليرموك، فبعد فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية في كانون الثاني 2006م وتشكيل الحكومة العاشرة برئاسة الأخ إسماعيل هنية، قمت بزيارة إلى دمشق بصفتي الرسمية؛ كمستشار سياسي لرئيس الوزراء، مما أتاح لي الفرصة للقاء شخصيات في الخارجية السورية، وإجراء مقابلات تلفزيونية وإذاعية وصحفية، والمشاركة في فعاليات وطنية داخل المخيم، والمرور على مكاتب الفصائل الفلسطينية هناك واللقاء بأمنائها العامين وبالسفير الفلسطيني في دمشق، وقد كانت هناك - أيضاً - الكثير من اللقاءات مع الكوادر الفلسطينية الإسلامية في مخيم اليرموك.. كان الحديث يدور بيننا حول التحديات التي تواجه حماس؛ الحركة والحكومة، وكيفية العمل لتحقيق رؤيتنا الاستراتيجية في توحيد شعبنا والتواصل مع عمقنا العربي والإسلامي وإنجاز مشروعنا الوطني في التحرير والعودة.

 

كانت اللقاءات داخل المخيم ومع الشباب من أبناء غزة والضفة الغربية ذات نكهة وطنية خاصة، ونشعر معها بالمسئولية العالية الملقاة على أكتافنا تجاه أهلنا في الشتات، إذ ليس هناك ما يضاهي الوطن مكاناً للاستقرار والعيش الكريم، فمهما كانت تسهيلات الإقامة التي قدَّمتها بعض الدول العربية للاجئين الفلسطينيين تحت عناوين وشعارات إسلامية وقومية، صنعنا منها موشحات وزغاريد وأغاني وأشعار على شاكلة "بلاد العُرب أوطاني.!!"، إلا أن الحقيقة المرة هي أن اللاجئين الفلسطينيين ظلت تلاحقهم المصائب والنكبات حيثما وضعوا رحالهم ووطنوا أنفسهم على الإقامة والعمل، ريثما يحين وقت العودة إلى أرضهم؛ وطن الآباء والأجداد.. ومن باب الاعتراف بالحق والحقيقة، فإن جزءاً من تلك الكوارث والنكبات التي وقعت كان بما كسبت أيدينا - كفلسطينيين - وبأيدي قادتنا السياسيين.. ففي السبعينيات كانت هناك مجازر أيلول في الأردن، وكانت على أسوء منها ما وقع من تطهير عرقي وترحيل جماعي للفلسطينيين في مخيم تل الزعتر في لبنان، ثم مجازر مخيم صبرا وشاتيلا في الثمانينيات، ثم الترحيل الجماعي لحوالي 400 ألف فلسطينيي في الكويت مطلع التسعينيات، ثم مأساة الفلسطينيين في العراق على إثر الغزو الأمريكي عام 2003م، وأخيراً – وبالتأكيد ليس آخراً - ما يجري منذ أكثر من عدة شهور لأهلنا في سوريا وخاصة في مخيم اليرموك؛ وهو المشهد الأكثر دموية وبشاعة في سياسة التطهير العرقي التي تبناها نظام بشار الأسد بحق الفلسطينيين.

 

واحسرتاه.. لا نملك إلا الآهات

 

إن مشاهدة المخيم قبل هذا الدمار الذي حلَّ بعمرانه وساكنيه كان صورة مشرقة للفلسطيني المكافح والذي استطاع أن يتغلب على تشرده وحرمانه بعد تهجيره من أرضه عام 1948م، وأقام حياً سكنياً متميزاً بمرافقه واستقراره، وحواريه وأسواقه والتي كانت تضاهي من حيث الجودة والأسعار أسواق دمشق الشهيرة، فالمخيم يضج بالحيوية والحياة من الصباح الباكر وحتى الساعات المتأخرة من الليل.

 

إن الزائر للمخيم بإمكانه أن يجد كل ما يحتاجه من الهدايا والتحف والمشغولات الفلسطينية بأسعار معقولة، وقد كانت مشترياتي في كل زيارة كمية من الحطَّات (الكوفية) والسناسل والعقود التي عليها مجسمات خريطة فلسطين وصورة المسجد الأقصى المبارك، وشالات بخطوط الكوفية الفلسطينية للفتيات، والتي كنت أهديها لأصدقائي وإخواننا وأخواتنا من الجزائريين العاشقين لكل رمزية تذكرهم بفلسطين وأهلها وتراثها النضالي والإسلامي.

 

إن مشاهد التدمير والخراب والصدمة والفزع التي حلت بالمخيم جراء قصف الطائرات له بالبراميل المتفجرة، والتي جعلت البعض يصورها في وسائل الإعلام بأهوال يوم القيامة، حيث يتدافع الناس بين أنقاض بيوتهم المهدمة طلباً للنجاة، حيث الموت يلاحقهم في كل مكان، فمخالب القناصة والجوع والحصار، هي مشهد "الصدمة والرعب" الذي ملخصه في موسوعة الحياة والفناء "لا ملجأ من الله لا إليه".

 

للأسف الكل قدراته مشلولة، حتى نحن أهل فلسطين عاجزون عن تقديم واجب الدعم والنُصرة، لتشرذمنا وعجزنا السياسي بسبب الانقسام وغياب الموقف الواحد، فليس لدينا إمكانيات التأثير على الحكومة السورية ولا حتى على أية فضاءات أممية بيدها أن تفعل شيئاً.. إننا نطالع مشاهد الموت اليومي والمجازر بالغة الفظاعة ولا نملك فعل شيء غير الدعاء، وتقديم بعض المساعدات الرمزية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وسط أوجاع المخيم وجياعه الذين يُعدُّون بالألاف، والذين لم يجدوا – واحسرتاه - بين جدران مساكنهم المهدمة وما تبقى من "خشاش الأرض" ما يُقيم أودهم ويحفظ حياتهم، فمات منهم بالجوع والعطش من مات، ومن نجا أدركته براميل الموت المتفجرة أو قتلته القناصة المتربصة بكل شيء يلوح في أفق المخيم أو يتحرك داخله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

لقد أظهر الانقسام مدى عجزنا وغياب قدرتنا على الفعل والتأثير، فأيدينا مشلولة ومواقفنا باهتة، ولا نملك إلا الآهات والدموع، حسرة على وطن أضعناه وشعب في الشتات خذلناه.

 

مخيم اليرموك: المكانة والذكرى

 

لقد وصف أخي د. مصطفى اللداوي مخيم اليرموك والذي عاش فيه منذ أبعدته السلطات الإسرائيلية إلى لبنان عام 1991م، ثم انتقل من هناك ليقيم في المخيم حيث مكان عمله بمكتب حركة حماس، ولقد كان د. مصطفى (أبو إسلام) أحد أعمدة المخيم برمزيته الإسلامية، وكان لي شرف زيارته أكثر من مرة هناك واللقاء عنده بالإخوة الشباب على مائده غداء أو عشاء، حيث كان أخي د. مصطفي رجل مضياف وصاحب كرم وعطاء.. لم أجد أصدق وصفاً لمخيم اليرموك أبلغ مما كتبه وأشار إليه، حيث قال: إن اليرموك هو اسمٌ عريقٌ يحمل دلالةً عظيمة، ومعاني مجيدة، تهتز لذكره المشاعر، وتفيض معه الأحاسيس، وتتوارد به الأفكار، وتقفز إلى الذاكرة منه سيولٌ من الأحداث والذكريات، فهو أرضُ معركة، وساحةُ قتال، صال فيها خالدٌ، ومرَّ فيها أبو عبيدة، ومشى فوق ترابها خيرةُ صحابة رسول الله، ودفن في جوفها رجالٌ خاضوا فيها أعظم معركةٍ صنعت للأمة مجداً، ورفعت للدين راية، وأدخلت الإسلام إلى الشام، فرفعت به شأن العرب، وصنعت منهم أمة، لتكون من بعده دمشق عاصمةً للدنيا، وحاضرةً للعالم، منارةً للهدى، وعلماً للإسلام، وسيفاً يدافع عنه، ويرفع رايته، نصرةً وجهاداً، ورباطاً وثباتاً.

 

إن مخيم اليرموك هو أكبر المخيمات الفلسطينية مساحةً، وأكثرها سكاناً، وأفضلها تنظيماً، وأجملها بناءً، وأكثرها خدماتٍ، وأحسنها موقعاً، إنه صنو مخيمي جباليا بقطاع غزة، وعين الحلوة في مدينة صيدا بجنوب لبنان، لجهة المساحة وعدد السكان، يعتز به الفلسطينيون، ويحرص على الإقامة فيه كثيرٌ من السوريين، إنه عاصمة المخيمات الفلسطينية في سوريا، وعنوانها الأبرز، ولعله أحد أهم عواصم الشتات واللجوء الفلسطيني، كان منذ أن نشأ في بداية خمسينيات القرن الماضي، معقلاً للرجال، ومنبعاً للأبطال، ومدرسةً للثوار، تخرج منه آلاف المقاتلين، ومئات القادة وكبار الضباط، ومنه خرج المدد المقاتل، والزحف الكبير إلى لبنان، ليشارك في الدفاع عن أرضه، والذود عن حياضه، نصرةً للمقاومة الفلسطينية واللبنانية، وفيه سقط آلاف الشهداء دفاعاً عن أرض العرب في لبنان، أو استشهدوا في عملياتٍ جهادية داخل فلسطين المحتلة، وغيرهم كثير من الأسرى والمعتقلين الذين قضوا سنواتٍ طويلة من عمرهم في سجون العدو الصهيوني ومعتقلاته.

 

لا يقوى أحدٌ على تجاوز مخيم اليرموك أو إهماله، فيخطئ في حقه ويضل في تصنيفه، وينكر أثره، أو يغمطه حقه، أو يخفي دوره، متجاهلاً معالمه، ومتجاوزاً مكانته وموقعه، فهو يتصدر المخيمات الفلسطينية، ويتقدم على كل التجمعات السكانية في الوطن والشتات، ولعله أحد الحواضر المدنية الفلسطينية الكبيرة، ففيه مدارسٌ ومعاهد، ومساجدٌ ومؤسسات، ومستشفياتٌ ومصحات، وأسواقٌ ومتاجر، وملاعبٌ ونوادي، وساحاتٌ وميادين، ومحكمةٌ وبلدية، ومراكز حكومية وأخرى أممية، وفيه كل التخصصات الطبية والمختبرات الفنية، ومكاتب الهندسة والعمران، ومكاتب المحامين وكتاب العدل، وغيرهم كثير ممن تزدهر بهم المدن وتتميز.

 

لا فلسطيني غريبٌ في مخيم اليرموك، ولا احساس فيه بالوحدة أو الغربة، ولا معاناة بين أهله، ولا ضيق أو تبرم بين سكانه، فالألفة والمودة تجمع أهله، وتنظم العلاقة بين ساكنيه، في نسيجٍ فلسطيني وطنيٍ حميم، لا يعرف الكراهية، ولا يستجيب لمعاني البغض، ولا يقيم وزناً لمفاهيم التمييز والفرقة، بل يتساوى سكانه، ويتعاون أهله، ويتكافئ شعبه، ويتضامنون فيما بينهم، فلا شكوى من جوع، ولا ضائقة من فقر، ولا احساس بالظلم أو الضيم، في تركيبةٍ سكانية فريدة، جمعت شمال فلسطين إلى جنوبها، مع أهل غزة وسكان الضفة الغربية، فضلاً عن المقدسيين وبدو النقب، وغيرهم كثير ممن فضل الإقامة فيه، والسكن بين شارعيه الكبيرين، اليرموك وفلسطين.

 

إن هذه الكلمات الحيّة لأخي د. مصطفي في وصف المخيم أرجعتني لتذكر كل تلك الشوارع والحوانيت والوجوه الفلسطينية التي طالعتها فيه، والسؤال – بلغة المجهول - عمن بقى حياً ممن عرفنا بين أهله من الإخوة والأصدقاء والمفكرين والأدباء والكوادر النضالية؛ الوطنية والإسلامية.. مخيم اليرموك - اليوم - تحول كله إلى ساحات ممتدة لمقبرة الشهداء؛ رحمهم الله جميعاً، وأسكنهم فسيح جناته، وألهمنا على فراقهم الصبر والسلوان.

 

ختاماً: إن للفلسطيني ربٌّ يحميه

 

كلما تذكرت ما جرى للمخيمات والتجمعات الفلسطينية في الشتات تذكرت كلمة لوالدي (رحمه الله)، قالها لي يوم جئته مهرولاً بعد سقوط قطاع غزة بأيدي المحتلين الصهاينة عام 1967م، لأخبره أن جيراننا في المخيم يشدون رحال الهجرة للأردن للنجاة بأنفسهم، حاثَّاً إياه أن نفعل مثلهم، حيث ناشدته قائلاً: هيا يا أبي نُعجَّل ونلحق بهم.!!

 

كنت شاباً متحمساً وشعرت بقسوة الهزيمة والإحباط من حالتنا العربية التي أثخنتنا بشعاراتها الكاذبة حول التحرير والعودة.. نظر أبي في وجهي المملوء فزعاً، وقال: هؤلاء مجانين.. والله لن نُعيد تجربة الهجرة مرة ثانية؛ سوف نموت هنا في بيوتنا، فهذا أشرف لنا وأكرم.. قلت موضحاً باستجداء أكثر: يا أبي.. إن دار فلان وفلان قد رحلوا، وهناك آخرين يتجهزون للحاق بهم.. قال بلغة الحازم: سأموت على عتبة بيتي هذا ولن أغادر، ولو كنت أعلم أن خروجنا من قريتنا في حُليقات عام 48 سينتهي بنا إلى هذا المخيم وهذه الحياة لكنت فضلت الموت بجانب قبر أبي ووسط أرض أهلي وبساتين عائلتي. اهدأ.. لن نغادر، ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.

 

اليوم، وأنا أطالع مسيرة المخيمات الفلسطينية وذكريات أحداثها والمجازر التي حلت بأهلنا فيها، أتذكر كل ما قاله أبى عن الهجرة والرحيل، ولعل حالنا - لو طاوعني أبي - هي ما شاهدناه أو نشاهده اليوم في مخيم اليرموك، وقبله في مخيم تل الزعتر (1976م) ومخيمات صبرا وشاتيلا (1982م) وحرب المخيمات في لبنان بين أعوام (1985- 1988م)، وأيضاً ما جرى من ترحيل جماعي للفلسطينيين بعد تحرير الكويت (1991م) باتجاه الأردن وكندا، وكذلك بعد الغزو الأمريكي للعراق (2003م)، حيث تعرض الفلسطينيون هناك لأقسى صنوف العذاب والإهانة والموت، ومن كان به استطاعة فقد آثر الرحيل إلى الأردن وسوريا وتركيا.

 

ولعلي هنا أكرر التساؤلات التي طرحها أخي د. مصطفي متوجعاً وبأسلوب استنكاري حين قال: "ما هي الجريرة التي ارتكبها سكان مخيم اليرموك حتى يصيبه ما قد أصابه، ويلحق به هذا الحجم المهول من الدمار والخراب، ويُمنى أهله بمئات القتلى وآلاف الجرحى، ويشرد الباقون منهم في فيافي الأرض، هرباً ونزوحاً وهجرة ولجوءاً، ويضطر كثيرٌ منهم للمغامرة فيموتون غرقاً، أو تمزق أجسادهم نيران خفر السواحل العربية، أو يجبرون على العودة إلى مناطق الخطر.؟!! ألا يحق لنا أن نتساءل عن الجهات التي ورطت المخيمات الفلسطينية، وأقحمتها عنوةً في الأحداث، سواءً مخيم اليرموك أو غيره، دون أن يكون المخيم مبادراً أو مشاركاً، وقبل أن يتورط وينغمس، ويجر ويوجه، هل كان من العقل والمنطق قصف المخيمات بالصواريخ وقذائف الدبابات من معسكراتٍ ومنصاتٍ بعيدة، تقتل وتدمر وتخرب بصورةٍ عشوائية، وتصيب كيف تشاء دون تحديدٍ أو تصويب، وكيف يمكننا تفسير قصف مخيم اليرموك بطائرات الميغ الحربية المقاتلة، التي هزت أرض المخيم، ودمرت بيوته ومساجده، ومزقت الأجساد وبعثرت الأشلاء.؟!!

 

ويضيف مستغرباً: "من الذي يحاصر المخيم، ويمنع إدخال المواد الغذائية والطبية لسكانه، ومن الذي يمنع أهله من الدخول إليه أو مغادرته، وهل أن حصار آلاف المدنيين في المخيم، سيجبر مجموعةً من المسلحين أو المقاتلين على إلقاء السلاح، وتسليم أنفسهم، والتوقف عن مقاتلة الجيش النظامي للدولة، وهل يجوز حصار شعبٍ إلى درجة الموت جوعاً، وتركه ينزف حتى الموت، من أجل إرغام مجموعةٍ صغيرة من المقاتلين على تسليم أنفسهم؟؟!! ويعقب بألمٍ وحسرة قائلاً: "أفلا ترون أن هذا هو العقاب الجماعي بعينه، إذ يعاقبون أبرياء بجريرة آخرين، ويقتلون أطفالاً وصغاراً ونساءً لا ذنب لهم، ولا جريمة اقترفوها سوى أنهم كانوا من سكان هذا المخيم.!!"

 

ويطرح د. مصطفى السؤل الأكثر حرجاً حين يقول: "لماذا سكتت القوى والتنظيمات الفلسطينية على ما يجري في المخيم، ولماذا قبل بعضها أن يكون طرفاً في الأزمة مع فريقٍ ضد آخر، فحملت السلاح وقاتلت، وأطلقت بعضها النيران من داخله، وقصفت أخرى مواقعه من خارجه، وقد كان بإمكانهم تحصين المخيم، وحماية أهله، والنأي بهم جميعاً عن الأزمة، وعدم الانخراط في المعركة، فلا يكون المخيم مرتعاً آمناً لفريقٍ ضد آخر، وقد كان في المخيم قوىً فلسطينية قوية ومؤثرة، وصاحبة نفوذٍ ومالكة قرار، ولديها منتسبون وأتباع، وعناصرٌ ومكاتبٌ ومقرات.؟!!"

 

ويأتي الجواب الذي يعكس واقع الحال، حيث أشار قائلاً: "كلاهما قد أخطئا القرار، وارتكبا معصيةً كبيرة، فأما أحدهما فقد تحزب وقاتل، وحمل السلاح، وانتظم في مجموعاتٍ ضد الدولة، ومارس العنف على أشده، ونصب من نفسه حاكماً وآمراً، وقاضياً وسجاناً وجلاداً، ومنفذاً للأحكام التي يصدر ومطبقاً لها، وأما الآخر فكان سيف الدولة المسلط، وسلطانها القاهر، فقاتل إلى جانبها، وقتل باسمها، ومارس البطش والإرهاب، والتضييق والتجويع والحصار أكثر منها، مغتراً بقوته، ومباهياً بما لديه من سلاحٍ وعتاد، وخبرةٍ وتجربةٍ ودراية، فكان المخيم ومن فيه هو الخاسر الأكبر، والمتضرر الأشد، تقتله الأطراف المتحاربة كلها، ولا تبالي بمصيبته، ولا تهب إلى نجدته، ولا تسمح لغيرها بغوثه وإنقاذه، ومساعدته وعلاجه.!!"

 

إن ما يحدث اليوم في مخيم اليرموك من مجازر وأهوال، وما جرى قبله من قتل وتشريد بمخيمات اللاجئين في تل الزعتر وصبرا وشاتيلا، سيبقى شاهداً على مظلومية الفلسطينيين، ووصمةَ عارٍ في جبين العرب والمسلمين.