في التسعين من عمره بيريس.. الى الأسفل

بقلم: 

أن تحتفل إسرائيل ببلوغ رئيسها شمعون بيريس التسعين من عمره، فهذا ليس حدثاً عادياً.
وأن يأتي إلى الاحتفال رئيس الولايات المتحدة الأسبق بيل كلينتون ليلقي محاضرة عن المناسبة مقابل نصف مليون دولار، فهذا معناه أيضاً أن الاحتفال تجاوز حدوده السياسية العادية، وأنه يحمل في طياته معاني عدة، يستطيع كل منا أن يقرأها من زاويته.
وإذا كان كلينتون قد أشاد مطولاً ببيريس، وقد تعاونا معاً في توقيع اتفاق أوسلو، والقاهرة، وخاضا معاً مغامرة الوصول إلى تسوية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فإن الكثير مما كان يجب أن يقال تجاوزه كلينتون وتغاضى عنه، ربما احتراماً منه للمناسبة، وربما التزاماً منه بالسقف السياسي الذي رسمه لكلمته، في الاحتفال، مبلغ النصف المليون دولار.
يمكن القول إن بيريس قضى القسم الأكبر من حياته في السياسة وفي خدمة المشروع الصهيوني، منذ أن هاجر إلى فلسطين وانتمى إلى جيل الصابرا، مروراً بدوره تحت قيادة بن غوريون في عقد صفقات السلاح مع فرنسا، وأهمها صناعة القنبلة النووية. وصولاً إلى توقيع اتفاق أوسلو، بقيادة شريكه اسحق رابين.
وبتقديرنا، فإن الحياة السياسية لبيريس تنقسم إلى مرحلتين كبيرتين. مرحلة ما قبل المفاوضات مع الفلسطينيين، ومرحلة ما بعدها.
ما قبلها، استطاع بيريس وشركاؤه في حزب العمل أن يتسيدوا على الحالة السياسية في إسرائيل، منذ نشوئها، وحتى منتصف السبعينات، حين وصل إلى الحكم، وللمرة الأولى، الليكود بديلاً للعمل (عام 1977). ومع ذلك واصل العمل تصديه لليكود، ولم يترك له الساحة خالية، واستطاع مرة أن يهزمه، ومرة أخرى أن يدخل معه الشراكة في إدارة شؤون الدولة (حكومة الرأسين بين بيريس وشامير). وإذا كان اتفاق أوسلو، وما وفره لإسرائيل من مكاسب وأرباح سياسية وأمنية فاقت الحلم الصهيوني في بعض جوانبه، فإن هذا لا يلغي أن الاتفاق شق المجتمع اليهودي في إسرائيل، وكان من نتائجه اغتيال رابين، وبداية أفول نجم بيريس، الذي أخلى المكان لغيره من قادة العمل.
وإذا كان بيريس نجح في أن يختم حياته السياسية وهو في أعلى منصب سياسي في إسرائيل (رغم أنه بروتوكولي في الأساس) إلا أن هذا لا يعني أن هذا المنصب يقرأ على أنه نجاح لبيريس في تحقيق "برنامجه" و "رؤيته" لمستقبل إسرائيل في إطار التسوية مع الفلسطينيين.
فمنذ عشرين عاماً خلت، أصدر بيريس كتابه الشهير (زمن السلام( والذي ترجم عن الفرنسية إلى العربية تحت عنوان "الشرق الأوسط الجديد"، رسم فيه بيريس شرقاً أوسط متخيلاً، ينعم بالسلام والرخاء، والاستقرار والهدوء، وفقاً للمعايير الصهيونية.
دعا بيريس إلى "الحل الوسط"، كما وصفه، بحيث تتخلى تل أبيب عن حلم "إسرائيل الكبرى" وأن تقبل برسم حدود جديدة "آمنة ومعترف بها" مع الفلسطينيين، مقابل أن يتخلى الفلسطينيون عن حلمهم بفلسطين التاريخية، بما في ذلك حق العودة للاجئين الفلسطينيين. وبيريس هو صاحب المشروع الداعي إلى "حل عادل ومتفق عليه" لقضية اللاجئين، يقوم على توطينهم في بلد ثالث.
وهو الحل نفسه الذي شكل محوراً لمبادرة السلام العربية، كما أكد الدبلوماسي الأردني المعروف مروان المعشر في كتابه الشهير (نهج الاعتدال(. كما دعا بيريس إلى معيار آخر لتوزيع الثروة المائية بحيث يتم على أساس الحاجة الفعلية وليس على أساس حق ملكية الشعوب لثرواتها، ما يجعل إسرائيل شريكاً أصيلاً للعرب في ثرواتهم المائية (خاصة لبنان، والأردن، وسوريا ومصر).
جنة الشرق الأوسط الجديد، كما رسمها بيريس في كتابه، بعبارات متفائلة وشفافة وشاعرية إلى حدّ ما، لم تتحقق رغم مرور عشرين عاماً على ولادة هذا المشروع. إذ يستطيع بيريس أن يطلع على تصريحات وزراء حكومة نتنياهو، وقد أجمعوا على رفضهم "الحل الوسط"، المزعوم، وتمسكهم بمشروع إسرائيل الكبرى، مع ضمان انفصالها عن الفلسطينيين حفاظاً على يهوديتها، ورفضهم في الوقت نفسه التفاوض مع الفلسطينيين لانعدام الثقة بهم، ولكونهم، كما يدعي وزراء نتنياهو لا يمثلون شريكاً مقبولاً في العملية السياسية.
وحتى نتنياهو، الذي يحاول أن يتخذ موقعاً وسطاً، أقل تطرفاً من وزرائه، يجد نفسه في نهاية المطاف يلتقي مع وزرائه في موقفهم من الدولة الفلسطينية حين يدعو إلى كيان فلسطيني لا يحمل من الدولة إلا الصفة لا غير.
وإذا كان بيريس لا يملك الجرأة الكافية لإجراء مراجعة نقدية لمساره السياسي وموقفه من التسوية السياسية والحل الدائم مع الفلسطينيين (خصوصاً حين ألغى مفاوضات الحل الدائم، لصالح معركته الانتخابية عام 1996 ضد نتنياهو وخرج منها خاسراً) فإن مساره الحزبي، إذا جاز التعبير، يعتبر، بشكل أو بآخر، مراجعة نقدية بائسة، انتهت إلى الصفر.
فرغم أنه من أقطاب العمل، وصاحب مشروع سياسي وثقه في كتابه المذكور أعلاه، فإنه لم يجد صعوبة في مغادرة الحزب، والانتقال إلى كاديما في كنف مؤسسه اريئيل شارون، حين التقى معه في الرأي القائل، باستحالة الوصول إلى حل دائم مع الفلسطينيين رزمة واحدة، وطرح بدلاً من ذلك مرحلة الحل الدائم إلى محطات، يشكل كل واحدة منها اختباراً لمدى صدقية الفلسطينيين، ولا يتم الانتقال إلى المرحلة اللاحقة إلا بعد التأكد أن السابقة لم تلحق أذى بالمصالح الإسرائيلية الأمنية وسواها.
انسحاب بيريس من العمل لصالح الالتحاق بكاديما، شكّل انقلاباً سياسياً على مشروعه الأصلي كما طرحه في كتابه "زمن السلام" وانقلاباً على حزبه (العمل) بعد أن فقد فيه الإدارة القادرة على صوغ وحمل مشروع سياسي بديل للتسوية مع الفلسطينيين يخدم إسرائيل ومصالحها المختلفة.
وإذا كان كاديما، برئاسة شارون، قد شكل رهاناً عند بيريس لضمان مستقبل إسرائيل، وضمان وصوله إلى الموقع الحلم، "رئاسة الدولة"، فإن ذوبان الحزب، في ظل قيادة شاؤول موفاز، تعبير آخر، عن فشل رهان بيريس الحزبي.
يقف بيريس الآن، فوق الحزبية الإسرائيلية، ويتقدم إلى العالم باعتباره رئيس دولة، لكنها دولة مازالت تحتل أرضاً، وشعباً، وتبحث في مؤسساتها التشريعية عن المزيد من القوانين التي تنحو بالمجتمع الإسرائيلي أكثر فأكثر نحو الفاشية.
ومهما كرر بيريس حديثه عن "حل الدولتين"، وفقاً للمعيار الإسرائيلي، فإن أصداء حديثه هذه لم تصل إلى أسماع وزراء حكومة بلاده، حتى ولو اضطر إلى الاستعانة برئيس أميركي سابق أشاد بحل الدولتين، مقابل نصف مليون دولار.

المصدر: 
المستقبل