"سلام اقتصادي" أم تطبيع مجاني وعودة لمفاوضات عبثية؟
عندما تعود واشنطن وتل أبيب للحديث عن (السلام الاقتصادي) فكأنهما تفترضان الجهل والغباء في الشعب الفلسطيني والعربي، أو تعتقدان أن الشعب الفلسطيني مجرد شعب لقيط أو جموع جائعة كل ما يريد هو المأكل والمشرب. وتنسى إسرائيل وواشنطن أن الشعب الفلسطيني قام بثورته الوطنية منتصف الستينات، ثم انتفاضتين مجيدتين دون حاجة لجهات مانحة أو اعتمادا على رواتب سلطة، الشعب الفلسطيني ثار وما زال في مرحلة ثورة من أجل الحرية والاستقلال وليس من أجل راتب أو وكالات غوث جديدة.
لا يعني هذا أن الشعب الفلسطيني يرفض المساعدات ويتعفف عن قبول الدعم والمساندة من كل من يؤمن بعدالة قضيته ويتعاطف مع معاناته، ولكنه يرفض التعامل معه كشعب متسول أو اختزال قضيته بالبعد الاقتصادي والمالي، ويرفض أن يدفع ثمن المساعدات المالية من كرامته وأرضه. ليس هذا فحسب بل أن مصطلح السلام الاقتصادي خاطئ بالأساس ومخادع لأنه لا يمكن للاقتصاد أن يحل صراع سياسي له علاقة باحتلال أراضي عربية وبالوجود الوطني الفلسطيني.
عندما نقول إنهم ينسون أو يتجاهلون أن الإغراء المالي لحسابات سياسية تنتقص من الحقوق السياسية للفلسطينيين كما هو الحال مع مبادرة جون كيري، ليس بالشيء الجديد حيث كتب شمعون بيريز الصهيوني كتابه (الشرق الأوسط الجديد) مع انطلاق الحديث عن عملية تسوية في الشرق الأوسط وكانت فكرته تقوم على تقديم الاقتصادي على السياسي حيث رأى أن تعاون (العبقرية اليهودية) مع المال العربي والأجنبي سيحقق نهضة اقتصادية في المنطقة ستساعد على تحقيق السلام. ولم يكن هدف بيريز بطبيعة الحال، لا تحقيق نهضة اقتصادية في المنطقة، ولا تحقيق السلام، بل فتح الباب للتطبيع مع العرب على حساب الحق الفلسطيني، كان الاقتصاد إغراء أو مصيدة للفلسطينيين والعرب ليتقدموا خطوة نحو الاعتراف بإسرائيل والتطبيع معها ليس سياسيا فقط بل وثقافيا واقتصاديا وكانت واشنطن ترغب في تهيئة المنطقة لمواجهة تداعيات حرب الخليج الثانية.
كانت إسرائيل تريد أن تقدم تنازلات صغيرة للفلسطينيين مقابل أن تحصل على أشياء كبيرة بانفتاحها على العالم العربي، وكانت واشنطن تريد تهدئة المنطقة للتفرغ لقيادة النظام الدولي الجديد، هنا يمكن أن نضع الصورة على الشكل التالي: كان موقف المفاوض الفلسطيني وحتى السوري في المراحل الأولى يقول للإسرائيليين: نحن مفتاح إسرائيل إلى الشرق الأوسط والعالم العربي وفي حالة انسحابك من الأراضي العربية المحتلة ستنفتح أمامك أبواب العالم العربي والإسلامي، من هنا كان لدى المفاوض الفلسطيني والسوري واللبناني ورقة وهذه الورقة هي التطبيع. الذي حدث أن إسرائيل نكصت عن كل وعودها ومع ذلك انفتحت أمامها أبواب عربية وإسلامية كثيرة من خلال الهرولة إلى التطبيع، وبالتالي لم تعد إسرائيل مجبرة على تقديم تنازلات للفلسطينيين.
قد يقول قائل، لقد انتهى زمن قومية وإسلامية القضية الفلسطينية، واليوم الدول تتصرف حسب المصلحة، وهذا قول به شيء من الصحة، ولكن السياسة ليست فقط مصالح اقتصادية آنية ولكنها مصالح اقتصادية واستراتيجية بعيدة المدى وهي مواقف والتزامات أخلاقية أيضا وخصوصا إذا كان الأمر يتعلق بدول تربطها قيم مشتركة. فعندما تقرر واشنطن مثلا مقاطعة دولة ما بزعم أنها إرهابية أو سياستها تهدد مصالح الغرب، تهب دول أوروبا لتساند أمريكا حتى ولو تضررت اقتصاديا، والعكس صحيح، لأن هناك شعور بوحدة الحال وقيم مشتركة أهم من المصالح الاقتصادية الآنية، فكيف الحال بالنسبة للدول العربية التي يفترض أن يكون ما يربطها بعضها ببعض أقوى مما يربط دول الغرب ببعضها، فما يربط الدول العربية هو التاريخ المشترك والانتماء المشترك والدين المشترك واللغة والعادات والتقاليد. هل يُعقل أن تُسبق بعض الدول علاقاتها مع إسرائيل على علاقاتها مع بعضها البعض؟ وهل يُعقل أن تطبع بعض الدول العربية علاقاتها مع إسرائيل فيما علاقاتها بشقيقات عربيات مقطوعة أو متوترة؟ وهل يُعقل أن تحشد الجيوش وتوظف الأموال العربية لمحاربة نظام عربي ولا تُحشد وتوظف الأموال لمحاربة إسرائيل؟
الواقع المؤسف اليوم أن الأنظمة العربية في زمن الانكشاف العربي أو ما يسمى بالربيع العربي لم تعد تعادي أو تقاطع إسرائيل، ولا تستطيع أن تعاديها ما دامت هذه الأنظمة أداة طيعة بيد الولايات المتحدة، ويبدو أن هناك تفاهما ما بين غالبية الأنظمة العربية والولايات المتحدة علي أن تضع هذه الأنظمة حدا لمقاطعة إسرائيل بطريق متدرجة وسرية إن كان ضروريا، ولا تقف عائقا أمام المطبعين من سياسيين واقتصاديين وإعلاميين، ولا بأس مقابل ذلك أن تستمر هذه الأنظمة بالحديث عن المقاطعة ورفض التطبيع. اليوم بات غالبية الإعلام العربي مطبعا مع إسرائيل – والجزيرة نموذجا-، والرأسمال العربي مطبع مع إسرائيل – مؤتمرات دافوس الاقتصادية والمشاركة في منظمة التجارة العالمية.
إذن (السلام الاقتصادي) ليس بالشيء الجديد على الفلسطينيين والمنطقة، ولكن يبدو أن واشنطن باتت تشعر بأن المنطقة العربية اليوم باتت تحت طوعها، ولِمَ لا وقطر تقود الجامعة العربية وكل الأنظمة العربية إما مستَنزَفة بحروب أهلية أو تعاني من أزمات اقتصادية أو مهددة بوجودها، وبالتالي فان ما فشل بالأمس قد ينجح اليوم.
نخشى أن البعض من السياسيين والرأسماليين الفلسطينيين مستعد للتعامل مع مبادرة كيري تحت ذرائع متعددة واستجابة لإغراء الأربعة مليار دولار التي تحدث عنها كيري، ويبدو أن هؤلاء لم يتعلموا درسا من مؤتمر انابولس نهاية 2007 والذي رصد (نظريا) سبعة مليار دولار ولكن بعد عامين على انابولس وصلت المفاوضات لطريق مسدود وخرج الشعب في الضفة في ثورة الجياع في سبتمبر 2012 وباتت السلطة قاب قوسين أو أدنى على الانهيار.
وأخيرا ولأن (السلام الاقتصادي) أو مبادرة كيري لا تنفصل عما يجري في المحيط العربي، ونظرا لخصوصية الحالة الفلسطينية، وإذ تعيد التأكيد بأن هدف مبادرة كيري ليس إنجاز الدولة الفلسطينية ولا إنعاش الاقتصاد الفلسطيني بل استدراج منظمة التحرير للعودة للمفاوضات لتهدئة الجبهة الفلسطينية حتى تتفرغ واشنطن وتل أبيب لمواجهة تداعيات الحرب على وفي سوريا، فإننا نخشى من توظيف العرب للموقف وللحالة الفلسطينية كمبرر للتعامل مع السلام الاقتصادي في شقه العربي وربما فرضه على منظمة التحرير والسلطة. الأمر الذي يتطلب اتخاذ موقف فلسطيني صريح برفض السلام الاقتصادي الذي تروج له واشنطن وتل أبيب ويتساوق معه البعض في الساحة الفلسطينية، لأن تحت عنوانه ستجرى عمليات تطبيع وشراكات سياسية بين الفلسطينيين والعرب وإسرائيل على حساب الحقوق السياسية والوطنية.