خطة كيري ومساراته الثلاثة

بقلم: 

بات واضحاً أن خطة كيري لإدارة الأزمة في المناطق المحتلة تعتمد على ثلاثة مسارات:
الأول هو السياسي، في البحث عن مخارج للأزمة التفاوضية، ولاستئناف العملية السياسية المجمدة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. كيري يعرف أن استئناف العملية التفاوضية، كما يراها الرئيس الفلسطيني محمود عباس تتطلب تجميداً شاملاً للاستيطان، إطلاق سراح دفعة من الأسرى، خصوصاً من اعتقلوا قبل اتفاق أوسلو، ولم تلتزم إسرائيل بإطلاق سراحهم عملاً بالاتفاقات الموقعة، أما المتطلب الثالث فهو الاعتراف بخطوط حزيران 67 أساساً للمفاوضات ورسم الحدود بين "الدولتين". بالمقابل يصرّ الإسرائيليون على اعتراف فلسطيني مسبق بيهودية إسرائيل، بكل ما يعنيه هذا من تداعيات خطيرة على حق العودة وعلى مصير الفلسطينيين داخل إسرائيل نفسها. ولعلّ نتنياهو، أراد أن يبعث برسالة قوية إلى وزير الخارجية الأميركي جون كيري، لكن على لسان وزير ماليته هذه المرة، يئير لبيد رئيس حزب "يش عتيد" الوسطي. حين رفض في حديث إلى "نيويورك تايمز" وقف الاستيطان، وأصرّ على مواصلة منح المستوطنين الامتيازات التي تشجع على العيش في المستوطنات. كما رفض الانسحاب من القدس الشرقية المحتلة، وأصرّ على حلول زمنية مؤقتة تبدأ بدولة فلسطينية ذات حدود مؤقتة على حوالى 50% من مساحة الضفة. وكلما تبين لإسرائيل نجاح التسوية في ضمان أمنها، خطت خطوة إضافية نحو توسيع مساحة الدولة الفلسطينية من دون الالتزام بسقف زمني للتسوية، ومن دون الالتزام بخطوط حزيران، مع التأكيد أن هدف التسوية هو "ضمان أمن إسرائيل" و"ليس توفير العدالة للفلسطينيين" كما أوضح لابيد.
هذا التباين الواسع بين الموقفين يؤكد أن مهمة كيري لن تكون سهلة، وأن موعد استئناف المفاوضات لم يحن بعد، وأن عليه أن يزيل المزيد من الحواجز والعوائق والعقبات في طريقه لتظهر له محطة استئناف المفاوضات، المحاطة الآن بضباب كثيف، دعاه إلى إبلاغ الفلسطينيين أن عليهم الانتظار لفترة غير قصيرة، ما يعني أن المسار السياسي، في خطته يراوح في مكانه لفترة غير قصيرة، خصوصاً أن اهتمامات كيري الرئيسة منصبة الآن على الملف السوري، وأن جلّ ما يعطيه للملف الفلسطيني لا يتعدى جزءاً بسيطاً من اهتماماته السياسية الأخرى. في هذا المحور، قد لا يكون كيري على ثقة بأنه سيصل إلى صيغة، سريعاً، لاستئناف المفاوضات، لكنه بالمقابل، سيحاول ألا يموت هذا المسار، وسيحاول في الوقت نفسه، إثارته بين فترة وأخرى، ليحافظ على التوازن، في خطته في مساراتها الثلاثة؛ وبحيث تبدو وكأنها تسير بإتجاه سليم.
المسار الثاني هو المسار الاقتصادي، ويبدو أنه أقل تعقيداً من المسار السياسي. فإمكان الولايات المتحدة أن تضخ في الاقتصاد الفلسطيني المترنح دفعة من الأموال، تنعش السوق الفلسطينية وتفسح في المجال أمام الحكومة الجديدة أن تسدد الرواتب المتخلفة للموظفين والعاملين في دوائر السلطة ما يولد حالة من الاسترخاء النفسي لدى المواطنين، بعيداً عن أجواء التوتر السياسي والاقتصادي. كما بإمكان الولايات المتحدة أن تقنع حلفاءها المانحين بالتبرع هم أيضاً بمبالغ سخية لصالح الخزينة الفلسطينية الفارغة، وكذلك إقناع نتنياهو بضرورة تسديد أموال المعابر في مواعيدها للخزينة الفلسطينية وتسهيل حركة البضائع في المعابر والموانئ بحيث يتولد إحساس بانتعاش اقتصادي، يخرج الحالة الفلسطينية من أجواء الأزمة المالية والمعيشية التي أطاحت بحكومة سلام فياض، ويهيئ لولادة الحكومة الجديدة في أجواء من التفاؤل، ولو قصير النفس.
أما المسار الثالث فهو المسار الأمني، ويتولاه مباشرة أحد مساعدي كيري الجنرال جون ألن. وهو مسؤول كبير وسابق في الجيش الأميركي ووظيفته كما وصفتها يديعوت أحرونوت (23/5/2013) مساعدة كبرى على تقليص الفجوات بين إسرائيل والفلسطينيين في مسألة الترتيبات الأمنية. ولم يخفِ ألن تشاؤمه حين أوضح أن عدم تقدم المسار السياسي قد ينعكس على المسار الأمني، لكنه أوضح، في الوقت نفسه، المسألة الأمنية تنقسم إلى ملفين:
- الملف الأول هو ملف التنسيق الأمني بين الطرفين، بموجب الاتفاقات المعقودة. ورأى المراقبون، في هذا المجال، أن العقبات لن تكون كبيرة في تعزيز التعاون الأمني الذي ما زال يعيش حالة طبيعية بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي وأن بإمكان ألن أن ينجح في هذا المجال. ولعل اعتقال مجموعات مقاومة في الضفة الفلسطينية، مؤخراً، بعيداً عن أي ضجيج إعلامي، يشكل دليلاً على مدى التعاون بين الطرفين ومدى نجاح ألن، في تسيير هذا الملف.
- أما الملف الثاني فهو ملف الترتيبات الأمنية ذات المدى البعيد، والمتعلقة بالتسوية الدائمة. وهذه تحتاج بالضرورة إلى جهد غير بسيط، لأنها تتعلق برسم الحدود، فإسرائيل، ما زالت تربط بين ملفي الأمن والحدود، وتغلب المتطلبات الأمنية كعامل رئيسي وأول في رسم الحدود. هنا قد تتعقد مهمة ألن، لذلك يتوقع المراقبون أن يفصل الجنرال الأميركي المتقاعد، بين الملفين الأول والثاني والتعاطي معهما كملفين مستقلين عن بعضهما البعض. يتعلق الأول بالتزامات السلطة الفلسطينية بالاتفاقات الموقعة، ويتعلق الثاني بمدى تقدم المسار الأول، أي المسار السياسي.
وهكذا يتبدى لنا أنه لن يبقى، في جعبة كيري، سوى ملف التعاون الأمني، مقابل دفعات من المال، تحتاجها الخزينة الفلسطينية بإلحاح.
فهل ينجرّ المفاوض الفلسطيني إلى لعبة كيري، بحيث يتم الفصل بين المسارات الثلاثة، ما يتيح لإسرائيل تعطيل التسوية الدائمة، (أي رحيل الاحتلال والاستيطان) مقابل دفعات من المال والتزامات أمنية، تكرس الحالة القائمة كحالة دائمة، ولا تفتح الأفق لضوء جديد؟..
وهل يتوقف الفلسطينيون، بالعمق المطلوب ليبحثوا، في إطار وطني شامل، "اليوم التالي" لمشروع كيري بمساراته الثلاثة؟..

المصدر: 
المستقبل