رام الله مدينة التناقضات والأسئلة المعلقة

بقلم: 

تتعدد الأسباب التي دعت السلطة إلى اختيار رام الله نقطة ارتكاز لها. يقول الدكتور عادل سمارة في حديث لملحق «فلسطين»: بعد اتفاق أوسلو كان لا بد من تكريس «عاصمة» لـ«سلطة أوسلو» على أن تكون غير القدس. ومن هنا جرى اختيار رام الله. ووجود السلطة سياسياً في المدينة، جلب معه الرأسمال المتحالف معها، ما أفسح في المجال للبذرة الأولى لأذرع الرأسمال الفلسطيني الأساسية بالنمو (قطاعات البنوك والاتصالات وشركات التأمين) مانحا المدينة فرصة أن تكون سوق عمل للفلسطينيين، مع وجود الوزارات والمؤسسات الرسمية، وكذلك العربية والأجنبية.

إن مجاورة رام الله لمدينة القدس التي غيُبت من المفاوضات إلى مرحلة قد لا تأتي أبدا، هي أحد الأسباب التي دعت السلطة لاتخاذها مقرا لها، بحسب تحليل الباحث في العلوم الاجتماعية وسام رفيدي. وهذا لا يلغي المكانة التي لعبتها المدينة في مسيرة الحركة الوطنية، في اختيار السلطة للمدينة، ومحاولة الاستفادة من ارثها الوطني، خاصة ان القيادة الموحدة للانتفاضة الأولى كان مركزها في رام الله.

تحولات المدينة

ارتبطت مدينة رام الله بأذهان الفلسطينيين بالمدينة المنفتحة سياسيا وثقافيا واجتماعيا، بسبب إطلالتها على العالم من خلال أبنائها المقيمين في الخارج، إضافة إلى التعددية الدينية فيها، التي خلقت مناخا من التسامح المجتمعي وتقبل الآخر.

وقد تحولت بلدة رام الله مع عودة السلطة إلى مدينة تتركز فيها أذرعها الإدارية والمالية والدبلوماسية، ما خلق مناخا اجتماعيا مغايرا، في ظل انتقال الموظفين من المدن الأخرى إليها، وازدياد المؤسسات الأجنبية الرسمية مثل القنصليات ومكاتب التمثيل والمؤسسات الدولية. وهذا الواقع، أثر في النسيج الاجتماعي ليس في المدينة وحسب بل في الأراضي الفلسطينية، حيث بدأت مظاهر رفض الفلسطيني للفلسطيني الآخر، تبرز يوما بعد آخر، وبدأت بعض مظاهر العنصرية والتعصب تصيب المجتمع الفلسطيني، وبخاصة بعد انتفاضة الأقصى، وما ترتب عليها من هجرة رؤوس الأموال والمصانع والشركات وحتى البنوك من مدينة نابلس وجنين وطولكرم إلى رام الله، حتى بات البعض في رام الله يطلق على القادمين من شمال الضفة الغربية إلى رام الله اسم «تايلندي» في إشارة إلى العمال التايلنديين العاملين في إسرائيل في ظروف وأجور مزرية! وسرعان ما تحولت المدينة نتيجة لتلك الظروف، إلى «تراكم بشري»، وشهدت فورة عقارية قتلت روحها السياحية، فغدت المدينة كما يصفها عادل سمارة، كأنها «فتاة ريفية تحولت إلى بائعة هوى» ولا تشبه المدن الحواضر إلا في الضوضاء والغبار واختلاط الألسن.

الوجود السياسي والاقتصادي للسلطة الفلسطينية والشركات الخاصة والمؤسسات الدولية في مدينة رام الله، بالترافق مع تدمير القطاع الزراعي في شمال الضفة الغربية والأغوار جراء بناء قوات الاحتلال جدار الفصل العنصري والتوسع الاستيطاني، أديا إلى تشكيل طبقة وسطى في المدينة مكونة من الموظفين والعاملين في تلك المؤسسات. وجاءت هذه النشأة نتيجة ثلاثة متغيرات مرتبطة بنشوء السلطة، الأول يتعلق بنشوئها ذاته وتحويل آلاف المناضلين إلى موظفين يعتاشون على السلطة، إضافة إلى عشرات آلاف العائدين من الخارج، ونشوء القطاع الخدمي كالبنوك والاتصالات وشركات التأمين وتوسع قطاع المنظمات غير الحكومية ليصل إلى أكثر من 1300 منظمة في أقل الإحصاءات.

إن الواقع الاجتماعي الناشئ في مدينة رام الله، كان لا بد له أن ينعكس بصورة مباشرة على الاقتصاد الفلسطيني، وتحديد ماهيته وملامحه. فالسوق المحلية ليست سوقا وطنية، بل هي سوق ريعية تعتمد على الريع التمويلي المتأتي من مصادر التمويل الأجنبي، أكان ذلك عبر تمويل السلطة أو تمويل كوادر من قوى الدين السياسي.

صُنفت السلطة الفلسطينية في عام 2006 كأكثر مناطق العالم اعتمادا على المساعدات الخارجية، حيث التزمت الولايات المتحدة الأميركية بحسب تقرير «خدمة أبحاث الكونغرس» دفع 3,5 مليارات دولار كمساعدات للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة منذ توقيع اتفاقية أوسلو، في حين بلغ متوسط المساعدات الأميركية بعد وفاة الرئيس ياسر عرفات نحو 400 مليون دولار سنويا، من دون أن يكون لتلك المساعدات أي أثر تنموي حقيقي.

المدن المهمشة

ألقت السياسة التي انتهجتها السلطة، من خلال تركيز اهتمامها ونشاطها في رام الله، بظلالها سلبا على المدن الفلسطينية الأخرى، سكانيا أو إنتاجيا، وخاصة أن القطاعات الإنتاجية التي تم تدميرها وتجاهلها في المدن الأخرى لا تشبه القطاعات الإنتاجية في رام الله المبنية على الخدماتية أكثر من الإنتاجية.

وكشفت بعض البيانات المصرفية الصادرة عن سلطة النقد الفلسطينية، حصول مدينتي رام الله والبيرة على ائتمانات مصرفية تصل إلى ثلثي ما حصلت عليه بقية مدن الضفة والقطاع وضواحي القدس بالكامل، خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الماضي 2012. وبلغ حجم الائتمان الذي حصلت عليه رام الله والبيرة نحو 2,211 مليار دولار مقابل 1,120 مليار لمدن الضفة وضواحي القدس، و410 ملايين دولار لقطاع غزة، وهو ما يثبت بشكل أو بآخر أن التركيز عليها يعني توفير كل من البنية التحتية والفوقية لعاصمة مستقبلية.

وبحسب التقرير السابق، فإن غالبية القروض الكبيرة التي تقدمها المصارف لعملائها تتم في الإدارات العامة والإقليمية والفروع الرئيسية، أي في رام الله، حيث ان القروض الاستهلاكية خلال الفترة نفسها (بلغت قرابة 549 مليون دولار) تذهب في غالبيتها لموظفي السلطة، ومعظمهم موجود في رام الله، وكذلك القروض العقارية والإسكان في رام الله.

وسام رفيدي يرى أن خسائر اقتصادية هائلة لحقت بالسكان في المدن التي التهمها جدار الفصل العنصري، ما أدى إلى ظاهرة نزوح واسعة من المحافظات الشمالية لمدينة رام الله، وبالتالي غدا في المدينة قطاع واسع من النازحين هم من المهنيين والموظفين والفقراء والمعدمين. وقد طال التهميش مدينة القدس، التي تتعرض لحملة تهويد واسعة، تستهدف كل ما هو فلسطيني وعربي، من دون أن تكون هناك خطة فلسطينية شاملة لإنقاذ المدينة ودعمها، إضافة إلى الاهمال والفوضى والتهميش الذي تتعرض له بلدات ضواحي القدس. وقد تحدث القيادي في حركة فتح حاتم عبد القادر، الذي شغل منصب وزير شؤون القدس في حكومة سلام فياض عام 2009، عن مدى التهميش الذي تعانيه المدينة، وعن «عدم استعداد الحكومة للإيفاء بالتزاماتها تجاه مدينة القدس، وتعامل وزارة المالية الفلسطينية بشكل غير مقبول مع القدس من خلال عدم صرف ما يمكن الفلسطينيين في المدينة من الصمود على أرضهم.

عاصمة السلطة

مع فشل المشروع السياسي الذي انبثقت منه السلطة الفلسطينية قبل 20 عاما، والمتمثل بمفاوضات عقيمة لم تحول مشروع السلطة إلى دولة، بات لدى الفلسطينيين قناعة بأن رام الله تتحول إلى عاصمة للسلطة الفلسطينية، في ظل فقدانها للسيادة على «الدولة» التي حــــصلت على اعتراف في الأمم المتحدة.

ويرى وسام رفيدي أن رام الله هي فعلياً، عاصمة السلطة، بينما القدس هي المعشوقة قولا لا فعلا، وهو ما يجعل المقدسيين وفاعلياتهم السياسية والاجتماعية يتذمرون من عدم اهتمام السلطة بالقدس والاقتصار على الاهتمام الإعلامي اللفظي.

المصدر: 
السفير