"يوم الأسيرة"

بقلم: 

تنشغل فلسطين في السابع عشر من نيسان كل عام بيوم الأسير الفلسطيني. يختلف هذا اليوم عن باقي الأيام الأسيرة باحتفاليته وانفلات الصدى الذي يكون فيه أكبر من الصوت. جادات الوجع الفلسطينية تمتد لتسع كل من تخلّف عن مسيرة، وتُصمد المنصّات رحبةً فتعجّ بمن خان الحظُّ حنجرته وأسقطته الحسابات في مواسم القحط والشدة.

فلسطين الأسيرة تحتفي بأسراها. تطلّ من طاقات الجرح وتذكّر: كلّنا في الهم سواء. منّا من دفع الحساب، ومنّا من يدفعه وآخرون، ربما لم يولدوا بعد، سيدفعونه وما غيّر العالم عدلَه وما بدّله تبديلا.

حق فلسطين على أبنائها مهر الحرية والقلق. حق فرسان الحرية على عروسهم حسن الوفاء، حضنها الدافئ وحلم. في يوم الأسير يقترب الفلسطينيون من جرح خاصرتهم النازفة. بعضهم يبقى مثل "توما" أحفادًا للشك يقيمون على ضفاف الهزيمة. بعضهم، قبل صياح الديك في الصباح، يعود لشِباكِه وصيده، لا مثل إسرائيل المحتلة تعرف كم درب الآلام طويل ، وتعرف أنّ للقيامة لا يكفي صليب وقاتل.

كل السيناريوهات أعدّت. الأدوار وزّعت. المؤثّرات الصوتية وما يلازمها وفّرت، وكانت كما يليق بأيام الصّلب. الموسيقى نوّتت، الألحان ثورة من مقام النصر، لم تشبه مارشات الجنازات والموت، بل تذكّر أكثر بوعود عاصفة راحلة. لا أعرف كيف، لكنّني لم أجد نفسي على إحدى تلك المنصّات. كنت راضيًا. قرّرت أن أقوم بما أحب. السفر إلى مستشفى " كابلان" لألتقي سامر العيساوي، حيث يرقد هناك، لا يشاهد ولا يسمع كيف تطرب فلسطين من حزن ومن فرح تمامًا كما يطرب قوس قزح وهو يغور في الأرض ولا يغور. أمرّ على أطلال عمواس وأتذكّر درب آلام " إبراهيم العمواسي" الذي احترف الترحال واللجوء وما زال يحمل صليبه. أتذكّره وهو ينتظر ابنه في ساحة منفاه الحديث جدا. في هذا المساء سيكون عرس في بيتونيا. عروسه في الأبيض تنتظر دم الصباح، الشباب يموج على "طلّة خيلنا من قاع الوادي". كلّهم هناك إلّا هو. انتظروا، حتى تغلغل المساء وعلا صوت البارود من هضبة قريبة. فلسطين تحترف فرح الدموع. جاءتهم الخيل التي لها غنّوا، من قاع الوادي. عليها رفاق "الطيش" ومعهم "العريس". كانت عروسه الأثيرة إليها زف كما في تهاليل القصب. لا أعرف لماذا تذكّرت العمواسي في ذلك النهار، عساها "فلسطين" الجرح تصر على عشقها لليل والخديعة.

كما لو كنت صاحب المكان، بلحظات وجدت نفسي في الطابق السادس أمام غرفة سامر. تعرّف إلي الحارس من بعيد وبدأ اتصاله مع أصحاب القرار، فهؤلاء الحرّاس الصغار هم فوّهات لا تقذف إلّا ما تحشى به. فجأة أشاح عني وقفز كفأر مرعوب من ظل. اعترض طريق كهلين اقتربا حتى باب غرفة سامر. امرأة تشبه إحدى عمّاتي تحمل بيدها "شلختين" من نبتة تشبه الخبيزة البيتية مع ورد خجول في الأطراف. بجانبها رجل عادي هيأته لا تشي بمقامه وعمله. يشبهني لكنني أصغره ببضع سنين. يصرخ الحارس في وجهيهما ويأمرهما بالتوقف وعدم التصوير. "نحن إسرائيليان من تل أبيب، قرأنا قصة سامر وجئنا لنتضامن معه ونقول إنّنا نخجل مما تفعله دولتنا. عديدون مثلنا لا يوافقون على ظلم الدولة وقمعها" هكذا أجابت "إستي" عندما أصرّ الحراس على التعرف إلى الزائرين. "هذا زوجي بروفيسور "يهوشوع تسال" ونحن جزء من مجموعة كبيرة ستأتي تباعًا إلى هنا". لم يسمح لهما الحراس بزيارة سامر ولا حتى بمشاهدته من بعيد. أغلقوا عليه الباب ومنعوا إيصال الورد إليه. أخذت شلختي الورد ووعدتهما بتسليمهما إلى سامر شخصيًا. بعد دقائق أخبرني الحارس بأنني أستطيع الدخول ولكن عليّ أن أبقي الورد خارج الغرفة. "يا أعداء الورد ويا أعداء الخضرة، بأي حق ستمنعوني وبأي ذريعة؟ سأدخل مع هذه الباقة وسيسمع سامر كل الحكاية وسيفرح". طال النقاش وكان إصرار وكان غضب. اتصلوا مع أصحاب القرار. بعد سجال وأكثر وافقوا على أن أدخل ومعي الورد ولكن علي أن أخرج ومعي الورد. أخبرت سامر بقصة الورد وبهؤلاء الإسرائيليين الذين يخجلون من قمع دولتهم وجاءوا ليعبروا عن حبّهم له ومناصرتهم. كان سامر هادئًا كعادته. البسمة تعلو وجهه المتعب. كلامه ينبض إصرارًا وثقة أكثر من قلبه العليل. أكد على ثباته وعلى عشقه للورد. تمنى أن يعود قريبًا إلى حيث الخضرة والعطر يكونان دومًا أبهى وأجمل، إلى العيسوية/القدس.

أنهيت الزيارة، خرجت والورد بيدي، لم أجد من أحضره. ابتعدت عن طريق عمواس. لقد كان الوجع فادحًا. كانت احتفالات يوم الأسير الفلسطيني في نهاياتها. منذ الصباح تجنّدت كل الإذاعات وركبت الموج حتى الملل أو الغرق.

في المساء دعيت ضيفًا على فضائية القدس. لساعة قابلني المضيف ببرنامج شائق . سأل عن كل مكشوف ومستور. أجبت بكل صدق وحب. ختم بمرّ الروايات جميعها وسأل عن موقفي إزاء من يسمون بمعتقلين سياسيين: فلسطينيون يعتقلهم فلسطينيون! هو الوجع يا رفيقي والعبث، هو الخراب والزبد، نصر يضاف على نصر الفاتحين وثقب أسود في خيمة الوطن. لا تسألني يا رفيقي والفلسطيني على الصليب والجند يهيّئون له أكاليل الشوك وحربة دقت في خاصرة ما زالت تنزف دمًا. كلكم يا رفيقي في البلاء سواء، فسجل أمامك: أن لا وطن يقام على أكوام من جماجم ولا على أكتاف جيوش من عبيد. فلسطين اليوم يا رفيقي تذكّرنا أنّها الأسيرة وكلّنا في عنقها ومن أجلها عشّاق ورهائن.

المصدر: 
القدس