عباس ومؤامرة فياض

بقلم: 

 

استقال سلام فياض أو لم يستقل، هذا هو السؤال الفلسطيني اليوم، الذي تحدد إجابته ملامح مسار العملية السياسية للقضية الفلسطينية وارتباطاتها الداخلية والخارجية.

 

الخلافات الداخلية بين فياض والرئيس محمود عباس، ومن خلفه حركة "فتح"، ليست جديدة. وحتى الكلام عن الاستقالة سبق أن قيل كثيراً، لكنه بقي كلاماً لم يخرج الى حيز التنفيذ. فياض سبق أن قدم استقالته في العام ٢٠١١ ومن ثم قدم أخرى في العام الماضي، لكنه مع ذلك بقي في سدّة رئاسة الحكومة. فالاستقالة ليست مجرد مسألة داخلية مرتبطة بالحسابات الفلسطينية، رغم اهميّة هذا العامل، الذي نغص على فياض فترات رئاسته للحكومة، والتي بدأت منذ العام ٢٠٠٧.

حركة "فتح"، منذ اليوم الأول، نظرت الى سلام فياض باعتباره تهديداً لوجودها السياسي، ولا سيما بعدما رفض تشكيل حكومة حزبية، وأقصى كل وجوه الحركة عن المناصب الوزاريّة. إجراء رأى فيه قياديو الحركة سرقة لآخر الأوراق التي لا تزال تلعب فيها الحركة في الداخل الفلسطيني. فمنذ تصدر العملية السياسية أولوية قيادات "فتح"، لجأت الحركة الى الاستراتيجية الخدماتية لكسب الولاء، مستفيدة من وجودها في الحكم.

 غير أن تولي فيّاض، القادم من البنك الدولي والبعيد عن كل تركيبات الفصائل الفلسطينية، سواء داخل منظمة التحرير أو خارجها، أكل من نصيب الحركة في كعكة الحكم. بل زاد من ذلك عندما أعلن عن تشكيل حكومة خالية من الفصائل السياسية، ما زاد من نقمة "فتح"، التي لا يتوانى قادتها عن اتهام فيّاض بأنه "يريد تفكيك الحركة".

 

صراخ الحركة الدائم كان في أذن محمود عبّاس، الذي أدار بداية الجانب الأصم، على اعتبار أن فيّاض "وديعة دولية" لدى السلطة الفلسطينية، ولا سيما في الجانب المالي. إذ إن وجوده في سدّة رئاسة الحكومة، كان الضامن لاستمرار تدفّق المساعدات، خصوصاً من الولايات المتحدة. لكن أبو مازن ما لبث أن رضخ لمعارضة الحركة، وتم التعديل الأخير للحكومة بإدخال وجوه حزبية، بينهم وزير المالية نبيل قسيس، الذي يمثّل حاليّاً عنوان الأزمة بين عباس وفيّاض.

قسيس مجرّد عنوان لما هو أبعد من مجرد قبول فيّاض استقالة وزير المالية، متجاوزاً عبّاس بالأمر، وتحميله وزر الأزمة المالية وفاتورة التقشّف التي أدت إلى احتجاجات عمّالية. هذه التفاصيل قد تكون هامشيّة في المسألة الأساسية التي قد تكون تشغل بال عبّاس، وهي قيام فيّاض بالقضم من صلاحياته ومشروعيته.

 

لعل الزيارة الأخيرة للرئيس الأميركي باراك أوباما إلى الأراضي المحتلة كانت كاشفة عن هذا القلق من أبو مازن. إذ أن السلطة، التي وضعت برنامج زيارة الضيف الأميركي، تجاهلت فيّاض من حساباتها، غير أن الرئيس الأميركي شخصياً طلب الاجتماع برئيس الحكومة، وهو ما تم فعلاً، وقام بعده بالإفراج عن مبلغ 500 مليون دولار من المساعدات الأميركية المحتجزة للفلسطينيين. لقاء وقرار فسّرا بأنهما يهدفان إلى تقوية فيّاض في مواجهة أبو مازن.

 

عبّاس على دراية بمثل هذه المساعي الأميركية، التي كان يوماً ما جزءاً منها للضغط على الزعيم الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات. إذ إنه خلال الحصار الذي فرض على ابو عمار في المقاطعة بعد عدوان "السور الواقي" في العام 2002، تم اللجوء إلى أبو مازن، الذي كان يشغل منصب أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، لتحجيم نفوذ عرفات في الداخل الفلسطيني، وتم الضغط على الأخير لاستحداث منصب رئيس حكومة يسحب من صلاحيات الرئاسة، وتسليمه إلى عبّاس. وهو ما تمّ فعلاً، قبل أن يدبّ الخلاف بين الاثنين، وتتم إقالة عبّاس واستبداله بأحمد قريع. لكن الأمور لم تنته هنا، إذ بقي عبّاس في خلفية المشهد حتى أوتي به خليفة لعرفات بعد استشهاده، وبغطاء غربي صادق عليه العرب، الذين كانوا جزءاً من مؤامرة مقاطعة عرفات.

 

أبو مازن اليوم ربما يستشعر مثل هذه "المؤامرة" مجدّداً، لكن مع تبدل الأدوار، إذ بات هو شخصيّاً المستهدف. أما الأدوات، فهو يراها كثيرة، وفيّاض جزء منها. لكن مع ذلك، فهو لا يستطيع تحمّل تكلفة الاستغناء عن فيّاض، على الأقل في المرحلة الحالية، وهو يرى الحراك الأميركي على خط التسوية السياسية، وما يحكي عن مبادرات حسن نيّة اقتصادية. مبادرات لن تتم ما لم يكن فيّاض في واجهة الحكومة الفلسطينية. وهو ما دفع الولايات المتحدة إلى استبعاد فكرة استقالة رئيس الحكومة الفلسطينية، في رسالة غير مباشرة إلى أبو مازن، بأنه من غير المسموح قبول الاستقالة، التي سيكون لها عواقب.

 

القضية، إذن، أكبر من مجرّد خلاف على حصّة أو سياسات حكومية أو إقالة وزير. للقضيّة امتداداتها وانعكاساتها الخارجية على الداخل الفلسطيني، وربما على مصير أبو مازن نفسه.

 

 

المصدر: 
موقع المدن