الانتفاضة والقرار المفقود

بقلم: 

 

 مع كل هبّة شعبية في الضفة الغربية، وهي كثيرة في الأيام الماضية، يعود الحديث عن الانتفاضة الفلسطينية الثالثة ومدى اقترابها من الانفجار في وجه الاحتلال. الكلام يبنى على كثير من التحليلات التي تؤشر الى أن الأرضية جاهزة بفعل الأفق المسدود الذي خلفته الخيارات السياسية للقادة السياسيين على الساحة الفلسطينية، سواء بالنسبة الى حركة "فتح" وباقي فصائل منظمة التحرير، التي تدور في فلكها، أو حركة "حماس" وتحولاتها السياسية الأخيرة.
 

ومع ذلك فإن الانتفاضة الثالثة لا تبدو خلف باب الأيام المقبلة. فالانتفاضة ليست خياراً شخصياً يأخذه فرد أو مجموعة. مثل هذا الخيار قد ينجح في تسيير تظاهرة أو اثنتين، أو حتى خلق ساحة مواجهة صغيرة مع قوات الاحتلال، لكنه بالتأكيد لن يقود الى اشتعال "غضب الضفة" كاملة.  الانتفاضة بالدرجة الأولى هي قرار سياسي. هذا ما تؤكده التجارب السابقة في الثمانينيات مع الانتفاضة الأولى، ثم في أوائل الألفية الثالثة مع الانتفاضة الثانية. في الحالتين كان القرار السياسي هو ما قاد الشعب الفلسطيني الى الخروج الجماعي الى ساحات المواجهة، مستفيداً من توقيت سياسي حرج، ومن شعلة أوقدها الاحتلال.
 

في الثامن في كانون الاول من العام ١٩٨٧، كان دهس شاحنة إسرائيلية لمجموعة من العمال عند معبر إيريز الفاصل بين قطاع غزة وفلسطين المحتلة عام ١٩٤٨ هو هذه الشعلة التي استغلتها القيادة الفلسطينية لتأجيج الغضب الشعبي في الداخل. كانت القيادة الفلسطينية في تلك الفترة بأمسّ الحاجة للعودة إلى الواجهة، وإعادة القضية الفلسطينية الى صدارة الاهتمامات.
 

 فبعد خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان بعد اجتياح العام ١٩٨٢، خضعت القيادة الفلسطينية الى ما يشبه الحصار السياسي العربي والغربي في تونس.  ولم يكن لها نفس التأثير على مجريات الصراع على الأرض بعدما فقدت حدود التماس المباشرة مع الأراضي المحتلة، ما أدى تالياً الى غياب أي حراك سياسي أو عسكري  حول القضية الفلسطينية. حادثة معبر إبريز كانت فرصة مناسبة للعودة بالقضية الى ساحة التداول، وعليه كان القرار السياسي بالبناء عليها، وتولّى القيادي الفتحاوي الراحل أبو جهاد عملية التنسيق الأمني للحراك الشعبي في مراحله اللاحقة، مع بعض العمليات العسكرية. الرهان السياسي على الانتفاضة آتى أكله، من إعلان الدولة الفلسطينية من الجزائر مروراً بمؤتمر مدريد، وصولاً الى اتفاق أوسلو، الذي كان عملياً نهاية للانتفاضة.
 

الانتفاضة الثانية في العام ٢٠٠٠ جاءت من رحم ظروف سياسية مؤاتية، والقرار كان اساسياً في اندلاعها. لم يكن دخول أرييل شارون في ٢٨ أيلول الى الحرم القدسي سوى الشرارة التي استغلتها القيادة الفلسطينية العائدة من الإخفاق الكبير في مؤتمر كامب ديفيد الثاني. وكان الرهان حينها من الزعيم الراحل ياسر عرفات على ممارسة ضغط ميداني لتحسين الشروط التفاوضية. إلا أن نتائج الانتخابات الإسرائيلية والأميركية في ذلك الوقت جاءت في غير صالح هذا الرهان. هجمات الحادي عشر من أيلول ٢٠٠١ جاءت لتزيد الطين بلّة، إذ نالت إسرائيل بعدها ضوءاً اخضر غربياً، وحتى عربياً، لحصار أبو عمار وفي النهاية اغتياله.
 

إذن في الانتفاضتين كان القرار السياسي هو الأساس الفعلي للثورة الشعبية. كثير من الحوادث والجرائم والانتهاكات شهدتها الأراضي الفلسطينية خلال الأشهر الماضية، ولعل آخرها استشهاد الأسير ميسرة أبو حمدية. لكن أياً من هذا لم يؤد الى انفجار الغضب الشامل.
 

رأسا القرار الفلسطيني اليوم غير راغبين في خروج الأمور عن السيطرة. لكل منهما حساباته الخاصة. ابو مازن، الذي يرأس حركة "فتح" يجاهر برفضه للانتفاضة ويؤيد "المقاومة الشعبية المضبوطة"، ولا يزال يراهن على العملية السياسية البحتة، من دون أي وسيلة ضغط مرافقة.
 

أما حركة "حماس" فتعمل وفق خريطة سياسية جديدة، ورهانها على تثبيت، وتكرار تجربة حكمها، لكن هذه المرة بغطاء من الشرعية العربية والدولية. وهي بالتالي ليست في وارد الخوض في مواجهة موسعة في المرحلة الحالية.
 

في ظل الخيارات القيادية الفلسطينية الحالية، سيبقى حديث الانتفاضة الثالثة فارغاً من مضمونه، وستظل الهبّات الشعبية موسمية ومعزولة، بانتظار نضوج القرار السياسي، الذي لا يبدو قريباً.

المصدر: 
موقع المدن