مأزق القضية الفلسطينية

بقلم: 

كنا نقول إن الاهتمام بالقضية الفلسطينية «قضية العرب الأولى» قد تراجع، والآن صمتنا حتى عن هذا القول. تراجع الاهتمام بالقضية بالفعل تحت وطأة متغيرات إقليمية وعالمية منذ ثمانينيات القرن الماضي، وهي عقد الحرب العراقية- الإيرانية التي أحدثت تغيرات جذرية في النظام العربي من أهمها ما يتعلق بالقضية الفلسطينية بعد أن طغى عليها الخطر الإيراني اعتباراً من عام 1986، وبدا هذا واضحاً في قمة عمان عام 1987 التي تراجعت فيها أولوية القضية الفلسطينية للمرة الأولى في تاريخ القمم العربية لحساب الحرب العراقية- الإيرانية. وما كادت هذه الحرب تنتهي حتى حدث الغزو العراقي للكويت في عام 1990، وتسبب الموقف الفلسطيني من الأزمة الذي بدا مؤيداً لصدّام في مزيد من تدهور مكانة القضية الفلسطينية عربياً، وظلت القضية تعاني من تداعيات ذاك الموقف حتى وقع الغزو الأميركي للعراق في عام 2003 الذي أوجد أولويات جديدة تماماً في المعادلات السياسية للمنطقة.
ولكن مسؤولية الفلسطينيين عن هذا التراجع كانت أساسية، وهي متعددة الأبعاد، وأول هذه الأبعاد توقف المحاولات الفلسطينية لتحسين ميزان القوى بينهم وبين إسرائيل. ثانياً ظاهرة الانقسامات بين الفصائل الفلسطينية وتفاقمها. أما عن توقف محاولات تحسين ميزان القوى بينهم وبين إسرائيل فقد توقفت الانتفاضات الفلسطينية لأسباب متعددة مع أن تأثيرها السياسي كان قوياً سواء بالنسبة لانتفاضة عام 1987 أو عام 2000. وبالنسبة للمقاومة المسلحة توقفت تماماً بالنسبة لـ«فتح» في أعقاب اتفاقية أوسلو عام 1993 التي تحولت بموجبها قواتها إلى ما يشبه الشرطة الداخلية، وتوقف دورها المقاوم ليتحول إلى الفصل بين الجماهير الفلسطينية والقوات الإسرائيلية. وبقيت «حماس» وحدها في ساحة المقاومة حتى فازت في الانتخابات التشريعية لعام 2006 وشغلت ببناء مؤسساتها كدولة عن دورها المقاوم الذي اقتصر على صد الهجمات الإسرائيلية.
 
أما ظاهرة الانقسامات بين الفصائل الفلسطينية فهي ظاهرة قديمة عرفها النضال الفلسطيني منذ بدايته، بالإضافة إلى أنه تم الاحتكام فيها إلى السلاح غير مرة، ولكنها اتخذت أبعاداً مختلفة بعد فوز «حماس» في الانتخابات التشريعية عام 2006، ذلك أن الصراع على السلطة بينها وبين «فتح» عقب هذا الفوز قد تحول إلى صدام دموي مسلح، وترتب على هذا تدهور حاد إن لم يكن قطيعة بين الفصيلين. والأخطر من هذا أن كلاً منهما قد انفرد بحكم جزء من المتبقي من أرض فلسطين. فانفردت «حماس» بالحكم في قطاع غزة والأمر نفسه بالنسبة للسلطة الوطنية في الضفة الغربية، وخلق هذا وضعاً انقسامياً لم تعرفه القضية الفلسطينية من قبل، ونظراً لخطورة هذا الوضع على مستقبل القضية فقد تعددت محاولات المصالحة بين الفلسطينيين وكان الدور العربي حاضراً فيها وأساسياً. وعادة ما كُللت هذه الجهود بالنجاح، وتم التوصل إلى اتفاقات واضحة وصريحة، ولكن التنفيذ كان صفراً. والواقع أن تحقيق المصالحة بين «فتح» و«حماس» أعقد مما تصور كثيرون، ذلك أن ثمة حسابات سياسية خاصة بكل فصيل لا تتعلق بالقضية بصفة عامة عقدت عملية المصالحة، فمن ناحية كان من الواضح أن «حماس» تعتبر أن تأسيس سلطتها على الأرض إنجاز استراتيجي في مسيرتها ينبغي الحفاظ عليه على رغم آثاره السلبية على دورها المقاوم، لأن اللحظة التي تنتقل فيها من أسلوب حرب العصابات إلى ما يشبه الدولة تعطي إسرائيل الفرصة لكي تضرب أهدافاً محددة بعد أن كانت تجد صعوبة حقيقية في تعقب هذه الأهداف. ومن ناحية ثانية أضاف «الربيع العربي» إلى هذه الإشكالية بعد أن أصبح «الإخوان المسلمون» الذين تعد «حماس» فرعاً منهم هم القوة الرئيسية في حكم مصر، ومن ثم أصبحت «حماس» تراهن على تغير جذري في الموقف المصري لصالحها بعد أن كان النظام السابق مؤيداً بوضوح للسلطة الوطنية في رام الله، وهو ما تم بالفعل فحدثت نقلة نوعية في العلاقات الرسمية بـ«حماس» إلى درجة اعتبرتها بعض القوى السياسية غير الرسمية ماسة بالأمن القومي المصري، بالإضافة إلى المؤسسة العسكرية التي يضمها البعض إلى القوى المتحفظة على تطور العلاقة بـ«حماس». ويعني ما سبق أن الانقسام بين «فتح» و«حماس» أصبح له منطقه الخاص بمصالح كل من الفصيلين، وهو ما يعقد قضية المصالحة الوطنية كثيراً على رغم الضغوط الداخلية الفلسطينية، وكذلك الضغوط العربية.
أما بالنسبة لـ«فتح» والسلطة الفلسطينية فقد كانت الحسابات تنبع أساساً من ضغوط خارجية، فالمصالحة تعني حكومة وحدة وطنية، أي مشاركة في الحكم مع من تعتبره إسرائيل والولايات المتحدة تنظيماً إرهابياً، وكان هذا يعني فيما يخص العلاقة مع إسرائيل تخريب العلاقة مع السلطة الوطنية بما في ذلك فرض إجراءات عقابية اقتصادية، بالإضافة إلى القيام بعمليات عسكرية لمحاصرة «حماس» بعد أن أصبح لها وضع رسمي في بنية السلطة الفلسطينية. أما الولايات المتحدة فكان من شأن السلطة إن أقدمت على الاتفاق مع «حماس» أن تفقد المساعدات المالية الأميركية السخية لها. وهكذا أصبحت المصالحة الوطنية الفلسطينية تخضع لاعتبارات قادرة على تعويقها، لا تنبع من الداخل الفلسطيني فحسب وإنما من خارجه كذلك.
وفي هذه الظروف لم تتوقف الجهود العربية للدفع بقضية المصالحة، ولعب عدد من الدول أدواراً محددة في هذا الصدد كمصر والسعودية وقطر واليمن ولكن هذه الجهود كما سبقت الإشارة نجحت على الورق دون أن تغير من الواقع شيئاً، غير أن قمة الدوحة الأخيرة تميزت بأن الدور العربي في المصالحة الذي اقترحته كان جماعياً، فقد وافقت القمة على اقتراح أمير قطر بعقد مؤتمر قمة مصغر في القاهرة يبحث قضية المصالحة ويسعى إلى تحقيقها، وكان الجديد في هذا الاقتراح أنه يمثل جهداً عربياً جماعياً على عكس الجهود الفردية السابقة، وكان من شأن هذا الجهد الجماعي أن يمارس على الطرفين ضغوطاً أقوى مما تستطيعه أية دولة بمفردها، ولذلك كان ثمة تفاؤل بالاقتراح القطري. غير أن المفاجأة كانت هي رفض السلطة الفلسطينية حضور المؤتمر لسبب بدا غريباً للغاية، فقد ذكرت مصادر رسمية في السلطة الفلسطينية و«فتح» أنه لا داعي لعقد المؤتمر لأن المصالحة تسير في طريقها المرسوم(!) أما «حماس» فقبلت حضور المؤتمر على الفور. والواقع أن الحقائق السياسية الجديدة في المنطقة تبدو هي السبب في هذه المواقف المتضاربة، فالسلطة الفلسطينية فيما يبدو تخشى من أن مؤتمراً يُعقد في مصر بعلاقاتها الجديدة بـ«حماس» قد لا يكون في صالحها، وأن ضغوطاً قد تُمارس عليها في هذا المؤتمر لقبول ما لا تريد قبوله. أما «حماس» فالاعتبارات السابقة نفسها (العلاقات المصرية الجديدة بحماس) هي التي تدفعها إلى الموقف المضاد لموقف السلطة الفلسطينية.
وهكذا تبقى القضية الفلسطينية غارقة في معضلتها سواء بسبب المتغيرات الإقليمية والعالمية الجديدة أو بسبب الأوضاع الداخلية الفلسطينية، ولذلك فإن أياً من أطراف الصراع لا يتخذ أي خطوة في اتجاه تسوية متوازنة، فإسرائيل ماضية في سياسة الاستيطان دونما أدنى اعتبار للموقف الفلسطيني أو العربي أو الدولي، والولايات المتحدة أشد ما تكون حرصاً على تأكيد تحيزها لإسرائيل والتزامها بأمنها، والعرب يطرحون مبادرات للتسوية منذ حوالي ثلث قرن قدموا فيها التنازلات دون جدوى من غير أن يفكروا في أن النهج نفسه يحتاج تغييراً مع أن فلسطين باتت تسير في طريق محفوف بمخاطر جسيمة.