الى سامر ورفاقه.. لا أملك لكم سوى الدموع والدعوات

بقلم: 

 

غدوت مستكينة الملامح، أحمل عبئا يقضُّ كرامتي، أشعر أنّ الخبز وموائد الطعام تحولا إلى غصة تمزقاني حتى النخاع الذي يُرسل أوامر إلى قلبي بالبكاء إثما على تناولي الوجبات الثلاث. لا أستطيع محاربة 'وذافة' أمعائي فأستكين لجوعي. أشعر بالإثم مجددا لحرب أمعاء سامر الخاوية ورفاقه، فأتقيأ ما أكلته،علني أقلّل من شعور الذنب والإثم داخلي. غدوت في دوامة مفرغة : أبتلع الطعام وأتقيأه. أزفر بغصة حارقة لضعفي الذي لا أستطيع سحقه، كأن أمنح لسامر ورفاقه رشفة حرّية تساوي ماء كبريائنا المراق، الذين كلما غدو معلقين أكثر بين موت وحياة، اقتربنا أكثر لموت محتّم لكل قيمنا وشعاراتنا الرنانة التي نطبّل ونصفّق لها ليلا ونهارا.
قديما، كان الجوع كافرا، واليوم أصبح الجوع ثائرا، وناقما على شهوة الملذات دون مقبّلات الكرامة والحرية الإنسانية. قديما كان الجوع مُذلا لصاحبه واليوم هو قاهر لأعدائه، فاللهاث الإنساني الساعي وراء حقوقه المسلوبة، قادر على تغيير كل القواميس اللغوية وقلب ركودها. تغيّر هذا الوشم الفكري، وأصبح للقاعدة استثناءات، وتعددت الحروب وضروبها، فكيف ستحفل القواميس وموسوعة الأرقام العالمية بمعدات الأمعاء البشرية 'الحربية' التي إن 'صوصوت' لن تخور بل تثور.
أقفُ على هضاب زفرتي الأخيرة، حين أرى العيساوي يشمُخ أكثر فأكثر، لتتقزّم قامتي أكثر فأكثر وتتوارى كلما شمخ. أُسلّم مفاتيح ضعفي وخنوعي وأزفر أكثر كلما تذكرت زفرة أبي عبد لله الصغير، آخر ملوك الأندلس وهو يقف على هضبة ليزفر 'زفرة العربي الأخيرة' والتي سميت تباعا بذلك، عندما سلم مفاتيح غرناطة. هل هضبته مازالت تعترض طرقاتنا، فلم نجسر بعد على تخطيها لكنه زفر حزنا وألما،عبد لله بكى يومها بحرقة، عزّ عليه الحجر والبشر وكل شيء. هو خسر ملكا، لكنّ زفرته التي دوّنها التاريخ، تومئ بأنه لم يخسر حياء الروح، وشعور الإنسان بالمصيبة، وهذا ما نفتقره نحن.
المآسي والمشاهد المؤلمة التي يمارسها الاحتلال، تتحول مع الأيام إلى روتين نطوي به يومنا. أصبحنا نشرب قهوتنا ونحن نشاهد أخبار المجزرة، أو نقلّب بين القنوات بكل سهولة وذلك ببساطة لأن كثرة المساس تميت الإحساس. قد يتساءل أحدهم عن عدم خشوع الحراس في الحرم المكي، صحيح أنّ وظيفتهم تستدعي اليقظة، لكنّ ارتياد المكان يولّد نوعا من الرتابة والبلادة، ليتحول الخشوع إلى عادة قديمة لن يتقنوها بعد اليوم، كما يتقنها زائر يزور المكان المقدس للوهلة الأولى لنرى عينيه تبتهل بالدموع والدعوات.
ارتياد الأخبار لمجرد تعبئة مواقع التواصل الاجتماعي ب 'ستيتوس' أو حالة عابرة، إضافة إلى وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة، جعلتنا نعتاد على الخيبة والتبلُّد ولا نهتز لأي شيء. اعتدنا الخبر، فأصبح عابرا بل وقضايانا الجوهرية أصبحت كذلك مجرد 'ستيتوس' عابر يتغير كتغير خلفيات الكمبيوتر. بتُّ أشعر بحرقة كبيرة وأنا أتصفح مواقع التواصل الاجتماعي مع الاعتراف بفضلها علينا كثيرا، لكنها 'مشكورة' حيث أنها أضافت على شجبنا واستنكارنا طينا أقصد لايكا وإشعارا نستخدمه لقلة الحيلة، وكنوع من الرضى النفسي وكوجه آخر لاستنكارنا وشجبنا، فمن لم يستطيع دعم الأسرى بيديه وفمه ولسانه، فليفعل ذلك ب 'بلايك' وذلك أضعف الإيمان.تغيرُ 'الستيتوس' بسهولة بمجرد حصول شيء عرضي يؤدي إلى تمييع قضايانا ويراهن على ذاكرتنا القصيرة الأمد واللحظية التي لا تتعاطى مع الخبر إلا في لحظته، كقضية سامر العيساوي التي لا تُتابع إلا في حال في وجود تطور جديد وخطير فقط.
لا أملك سوى أن أضع يدي على قلبي المتسارع النبضات، كلما سمعت تردي حالة العيساوي، أبتلع ريقي بغصّة وأتناول بعض الماء، أقرأ الرسائل اليومية التي ترد من محاميه، ألتقط أنفاسي حين أسمع استقرارا في حالته. اصمد يا عيساوي لأجلنا، كيف سنغسل أيدينا من عجزنا وعارنا وتقصيرنا إن رحلت لتحيا؟! ماذا بوسعي أن أُجيب رفيقك الأسير قعدان، حين كتب لأسرته رسالة يقول فيها: أُهديكم جوعي وبعضا من دموعي.
لا أحمل لكم في جعبتي سوى الدعوات، بعضا من أمنيات واستنكارات زدتُ حشدها بمزيد من اللايكات والإشعارات على الفيس بوك. غدت المواقع الاجتماعية تشعرني ببؤس الواقع أكثر، تزعجني طريقة بعض 'الفيسبوكيون' الذين يتعاملون مع بعض القضايا الإنسانية والجوهرية كمجرد 'ستيتوس' لا غير لاستدرار العطف طعما لجمع اللايكات، فأتمنى أن أركل أحدهم ركلة بلوك 'تجيب آخره'، ذلك الذي يضع صورة لأسير لمجرد أن يحشد عليها 'لايكات' ويقول: إذا بتحبوا الأسير الفلاني، أو الرسول عليه السلام،ووو.. 'لايك بليز' للصورة، كما تسولت عدة قنوات عربية مساعدات باسم دماء الشهداء، ولم يصل شيئا منها لأسر الشهداء.
أتساءل عن العديد من مواقع التواصل الاجتماعي التي شاركتُ فيها، وكانت تحت مسمى دعم الأسرى أين ذهبت وتبخّرت؟!..هكذا نبقى نؤجل أو ننسى قضايانا نظرا لذاكرتنا 'الكنتاكية' والقصيرة المدى. فقضية العيساوي لم تحظى بهذا التفاعل والزخم سوى لحظيا، ونبقى ننتظر ونؤجل سواعدنا 'ليوم الله بيعين الله'، حتى أضحى الأسير بين الحياة والموت. فالنصائح والعبر لا نأخذها ولا نبتُّ فيها سوى بعد حدوث المصائب، مع أنّ النصيحة بعد المصيبة مثل صرف الدواء لشخص متوفي. لكنّ العتب على ذاكرتنا القصيرة الأمد ونظرتنا الآنية التي غدت عقليتها 'فيسبوكية' تماما. لذلك يقال للأسف بأن الألم الذي لا نتعلم منه نستحقه مجددا، وهذا ما يحدث في كل مرة.
الفيس بوك، والذي كان له الفضل في تفجير ثورات الربيع العربي، كان يمكن لو استخدمناه استخداما مدروسا أن يساهم في تفكيك بعض من قيد الأسرى أو على الأقل أن يُلقي الضوء على حالتهم بشكل يُولّد حشدا ليس شعبيا فقط بل وعالميا لو تم دعم المواقع ومتابعتها إعلاميا بلغات عدة، فنحن غدونا في قرية صغيرة كل منا يسمع 'عطسة' الآخر.
حالتي لهذا اليوم : 'أكرهك عزيزي الفيس بوك، لإنك تعزّز لي واقعي وتأسس لقناعة داخلي بأن التطور في أشكال التواصل لن يغير في أنفسنا شيئا، ما لم نتغير من الداخل..حضرتك، أصبحت أرضية أخرى لتعزيز انقسامنا، ودكتاتوريتنا في التعاطي مع الآخر، وبلوك فوري لمن أخالفه الرأي فقط حتى من قبل بعض المثقفين 'المعروفين'. الحمد لله، 'البلوك' أهون من البوكس على أرض الواقع، عدا عن لايكات واشعارات إضافية كنوع من بهارات هندية لشجبنا واستنكارنا وكإنو مش ناقصنا استنكار لمجرد الاستنكار.
كيف نطلب العون من الخارج ونحن لا نعين أنفسنا؟! ما لم تكن فينا الرحمة فكيف ننتظرها من الخارج؟ في رسالة موجعة بعثها الأسير المقدسي حسام زهدي شاهين إلى الأديب الفلسطيني محمود شقير، يطالب حسام بحقه بأن يمارس نداء الطبيعة بأن يبول...هذا الحق الذي يمتهن المحتل به كرامته كثيرا، تمنى حسام أن يبول من عينيه، اعتراف مؤلم يجعلنا نصغر أكثر أمام أنفسنا. قرأت رسالته بحرقه، ضغطت بطريقة خجولة على لايك وهربت خجلة من ضعفي.
أمارس عجزي مجددا لتقصيري وقلة حيلتي تجاه الأسرى...بت أخجل من كل شيء حتى من الكتابة التي أشعر أنها تُبرّد قلبي قليلا أحيانا ، أو أنها تُبقي الجرح مفتوحا وحيا دون أي سعي لتضميده. بتُّ أهرب من مصافحة الفيس أو التويتر وحتى التلفاز لكي لا أشعر بعجزي أكثر، ولكي لا أصاب بصداع وأنا أقرا النشرة الفيسبوكية لبعض الأصدقاء، منهم من هو مشغول بجوعه العاطفي فقط لا غير دون التفاعل مع قضايا أخرى، وآخر منهمك بجوعه الجنسي الذي يلبسه رداء الأدب، فيحلو للأدب ما يحلو لغيره من كلمات مبتذلة وصور 'عارية' -إنها من الفن وتعبّر عن عري الروح أيتها 'المعقدة'، لماذا تقيّدين روح الإبداع؟!.
اطمئني، سامر ورفاقه مازالوا بخير، هم يسألوننا إن كنا بخير!!! أتفاءل وأخبر من حولي أني بخير طالما هم كذلك، أمارس بعضا من الخيال كي لا أشعر بالفظاظة التي تفرضها علي الأشياء. أرجوكم تمسكوا بالحياة، أخجل أن أقول لكم 'عيشوا لأجلنا'، لكي نحافظ على احترام أنفسنا وهيبة كرامتنا. سامر ورفاقه.. أرجوكم اصمدوا لأجل إخوانكم الأسرى إن لم يكن لأجلنا، فحياتك يا سامر تساوي حياة الأسرى، إن نجح صمودك سيكون هذا باب أمل للأسرى الذين يستطيعون تحرير أنفسهم ليس بأسنانهم أو أيديهم بل بحرب أمعائهم الخاوية الضروس، إذن هي حرب إرادة ومصير قضية مستقبلية وتحدى كبير يؤرق الاحتلال.
أما نحن فأصبحنا نتفنن في امتلاك أنصاف الأشياء: نصف حياة، نصف موت، نصف حل، نصف حلم، نصف أمل، نصف عمل، نصف تصريحات، نصف دعم في التعاطي مع قضايانا الجوهرية. لكن، هل نصف شربة تروي ظمأنا، أو نصف طريق لدعم الأسرى يوصلنا إلى شيء؟ النصف هو فشلنا، وعجزنا الذي يساوي نصف حياة لا أكثر.
فليسامحني الأسير قعدان... لا أملك للرد على رسالته سوى الدموع، الدعوات، وللأسف 'اللايكات والإشعارات'والمجد.

 

المصدر: 
القدس العربي