بعد باريس

باريس

في 12 تشرين ثاني، قبل الاحداث الدموية في باريس بيوم واحد، ظهر الرئيس الأمريكي براك أوباما في مقابلة تلفزيونية قبل سفره إلى مؤتمر جي 20 في تركيا. المذيع جورج ستيفانوبولوس سأله إذا كانت داعش تزداد قوة، فأجاب أوباما: «لا. لا اعتقد ان داعش تزداد قوة. كان هدفنا منذ البداية هو احتواء داعش. وبالفعل نجحنا في احتوائها».

ليست هذه هي المرة الاولى التي توجد فيها فجوة بين الكلام (اللافت بدون شك) لأوباما وبين الواقع. في الاسابيع الاخيرة سجلت داعش انجازات مهمة: عملية تفجيرية مع عشرات القتلى في أنقرة وفي بيروت، اسقاط طائرات مسافرين روسية في سيناء، وفي اليوم التالي للتصريح الغريب لأوباما ـ مجموعة العمليات في باريس. الولايات المتحدة تقصف أهداف لداعش منذ عام من الجو بشكل متتابع ولكن بمستوى منخفض، وسلاح الجو الروسي يقوم بذلك ايضا منذ شهر، لكن هذا لا يضعف التنظيم على ما يبدو، وفي نهاية المطاف معروف انه لا يمكن حسم الحروب فقط عن طريق القصف الجوي.
تحول داعش في العام الاخير من تنظيم إرهابي مشتت إلى مسيطر على مناطق جغرافية واسعة في سوريا والعراق. ولا يحتاج إلى العمل في السر. السيطرة الجغرافية تمكنه من التخطيط بشكل حر في الشرق الاوسط وخارجه. وحتى ان لم يكن مريحا الاعتراف بذلك، فلا يمكن التغاضي عن حقيقة ان تيار اللاجئين إلى أوروبا وحرية الحركة داخل الاتحاد الاوروبي يسهلون عليه في تنفيذ خططه.
شيئا فشيئا بدأ العالم كله يفهم، انه لا مناص من محاربة التنظيم. ومن دون زعزعة المرتكز الجغرافي لداعش لا يمكن التغلب عليه. العالم كله وليس فقط الغرب لا يستطيع تقبل طرف له سيطرة جغرافية ويتغاضى كليا من المعايير الدولية وغير خاضع بأي شكل للقيود التي تسري اليوم على الدول السيادية. هذا لا يمنع الحاجة إلى خطوات ملحة في أوروبا ذاتها، لكن جذور المشكلة هو قدرة داعش في السيطرة على مناطق جغرافية بدون مسؤولية وبدون قيود. لا تكفي البنية الاستخباراتية المتطورة التي لدى الاتحاد الاوروبي. هذه مهمة لكنها لا تكفي. من جهة ثانية يمكن تفهم الارتداع ـ الامني والاخلاقي ـ للعملية البرية: لا احد يريدها الان. ومع ذلك يبدو انه بعد باريس سيتضح أكثر فأكثر انه لا مناص منها. ويمكن القول ان اقتراحات كهذه ستطرح قريبا في مجلس الامن.
على ضوء التدخل الجوي الروسي والمساعدة اللوجستية لسوريا، فانه من الممكن ان تتم هكذا خطوات مع تأييد روسي ان كانت ضمن قيود معينة. روسيا ايضا مهددة هنا.
بقي السؤال: لمن توجد قدرة ميدانية ولوجستية للقيام بهكذا خطوات، توجد ثلاث خيارات، لكنها معقدة وسائكة.
الخيار الاول، هو بالطبع الولايات المتحدة ـ القوة الاكبر في العالم وقائدة حلف الناتو. وقد برز باقوال الرئيس الفرنسي تلميح لذلك الذي قال ان عمليات 13 تشرين ثاني هي «شكل من أشكال الحرب» وفي ذلك توجيه واضح لمبدأ الامن الجماعي، الموجود في البند 5 لميثاق الناتو، والذي يقول ان الهجوم على دولة مثل الهجوم على جميع الدول الاعضاء في الحلف، هكذا تصرفت الولايات المتحدة باعقاب احداث 11 ايلول 2001.
لكن خطوة كهذه ستكون كارثية ليس فقط بسبب فشل أمريكا (التي اخذت غطاء جزئيا من الناتو) في افغانستان والعراق. كل تدخل عسكري غربي سيفسر في العالم العربي وعن حق كمحاولة اخرى للسيطرة الامبريالية، ولا يمكن التغاضي عن حقيقة ان داعش نشأت بسبب التدخل الأمريكي الفاشل في العراق. اضافة إلى ان التدخل الغربي لن يحظى بدعم روسي بالذات لان الغرب يعتقد ان من الضروري اسقاط رئيس سوريا، بشار الاسد، اما موسكو فتريد الابقاء على نظامه على الاقل ان لم يكن بالامكان ابقاءه شخصيا، نأمل انه رغم الردود العاطفية التي يمكن تفهمها بعد العمليات في باريس، ان لا تنجر الدول الغربية لهذه الطريق وان لا تجد الدعم السياسي، رغم التصريحات الانفعالية والعاطفية في الاونة الاخيرة.
الخيار الثاني، الذي يبدو معقولا هو ان تتم الحرب البرية من قبل اطراف إسلامية تعتبر داعش تهديدا لها ـ على راسها السعودية ودول الخليج. المشكلة هي انه لا توجد جيوش قادرة على تنفيذ هكذا مهمات، رغم ان لديها سلاح جوي ماهر نسبيا. اضافة لذلك، احدى الاستخلاصات من السنوات الاخيرة هي ان الجيوش العربية تنهار تحت الضغط وتتفكك، هذا ما حصل للجيش العراقي خلال حقبة صدام حسين، وايضا الجيش العراقي الجديد، الذي دربته الولايات المتحدة وتم تمويله بالاموال الأمريكية. وهذا حصل ايضا للجيش السوري التابع للاسد.
يتضح في ظل الدكتاتوريات العربية ليس بالامكان الاعتماد على الجيوش التي تعتمد على التجنيد الشعبي. من يريد الموت من اجل شخص قمعي ومتسلط؟ هذه الجيوش تنهار ببساطة عندما يقرر الجنود العودة إلى بيوتهم، بالمقابل فان المحاربين الذين لديهم دافعية دينية عميقة (بالامكان توجيه ذلك بسهولة باتجاه القتل البشع) تنجح أكثر ـ انظروا إلى حماس وحزب الله من جهة، وداعش من جهة اخرى. وهذا ينطبق ايضا على الوحدات العسكرية الكردية ـ تحارب من اجل الدفاع عن البيت.
ليس صدفة ان الحكومات في بغداد تعتمد على ميليشيات شيعية لان الجيش العراقي انهار، ونظام الاسد يعتمد على ميليشيات حزب الله وحرس الثورة في إيران. هل يمكن اقامة فرق عربية وان كانت صغيرة، ذات دافعية لمحاربة داعش؟ لست مقتنعا بذلك، والمحاولات الأمريكية لاقامة هكذا فرق كانت مثيرة للشفقة، رغم انها كلفت ملايين الدولارات، باستطاعة السعودية ودول الخليج تمويل حرب برية، ولكن لا يوجد لديهم جيش ليقوم بتنفيذ هذا الامر.
الخيار الثالث، هو تركيا، حيث لديها الشرعية كدولة سنية لمحاربة التطرف السني لداعش. لكن تاريخ رجب طيب اردوغان بموضوع داعش ليست لها مصداقية. لذلك من الصعب حصول تركيا على ثقة الدول العربية السنية وروسيا تشتبه بها بسبب الخلافات حول مستقبل نظام البعث. بالاضافة لذلك ان رؤية الجيش التركي يعبر حدود سوريا والعراق واحتلاله لمناطق عربية قد يثير المخاوف في العالم العربي من الامبريطالية العثمانية الجديدة.
هناك خيار آخر، وهو إيران، لكن من الصعب ان تؤيد اية دولة سنية خطوة ستعزز المطامح لزيادة سيطرة طهران الشيعية، وأوروبا والولايات المتحدة ستتعاملان معها باشتباه. ان وجود عدة فرق والوية إيرانية شيء، والدخول كجيش إيراني في حرب برية إلى سوريا شيء مختلف كليا.
ان طرح هذه المصاعب قد يدفع المراقبين والسياسيين إلى الاستنتاج انه لا داعي للتفكير بالعمل العسكري من اجل القضاء على السيطرة الجغرافية لداعش. في عالم مثالي يمكن الحديث عن عملية مشتركة أمريكية روسية، لكن هذا لن يحصل على ما يبدو. ومع ذلك، ممنوع العيش باوهام. فمن الصعب وضع حد لداعش بدون عمل عسكري بري، ومن الصعب ان يقبل العالم وجود كيان جغرافي يعمل مثلما كان يعمل القراصنة في بداية العصر الجديد.
مر وقت طويل حتى تم القضاء على القراصنة وعلى العكس مما كان متعارف عليه فيها كقانون دولي، ولكن لم تكن هناك طريقة اخرى للقضاء على الذين استولوا على السفن التجارية وباعوا الاسرى كعبيد. داعش تنتمي لهذه الفئة حتى وان لم تتوفر الان طريقة معقولة للقضاء عليها فمن الواجب عمل ذلك. لم يكن الامر سهل، والحقيقة المرة هي ان القوة الشنيعة يجب وضع حد لها بالقوة الشنيعة.

شلومو أفينري

هآرتس 
 

حرره: 
م.م