أمريكا بعد 11 أيلول بين التدخل والانطفاء

أمريكا

ابراهام بن تسفي

في مثل هذا اليوم قبل 13 سنة حدث حادث صادم تأسيسي في تاريخ الأمة الامريكية، ولّد تحولا مبالغا فيه في سلوكها الاستراتيجي مدة عقد تقريبا، فقد كانت العمليات الجماعية في برجي التوائم ووزارة الدفاع الامريكية، التي نفذتها منظمة القاعدة، كانت حافزا الى صوغ سياسة جديدة قامت على فكرة حرب رادعة للارهاب العالمي والدول التي ترعاه. وذلك على أساس الايمان بأن القضاء على نظم حكم مستبدة مؤيدة للارهاب سيُهييء القاعدة لصوغ نظام اقليمي عالمي ديمقراطي ومستقر.

لكن تطبيق هذا الاساس التفكيري في ميادين القتال في افغانستان والعراق (التي لم تكن لها صلة بعمليات 11 أيلول برغم نظام القمع الذي حكمها على عهد صدام حسين)، لم يهييء لانشاء مجتمعات حرة مفتوحة تأخذ بنموذج الديمقراطية الغربية. بل كان الامر على العكس من ذلك لأن محاولة ادارة الرئيس بوش الابن أن تبني في بغداد وكابول نظامين ديمقراطيين مستقرين آلت الى الفوضى، هذا الى الزيادة في قوة الانقسامات العرقية والدينية والثقافية والايديولوجية العميقة التي كان المجتمعان مشحونين بها، وسيّر ذلك العراق وافغانستان في طريق سفك الدماء والارهاب والفوضى. فلا عجب اذا من حدوث تحول في الرأي العام الامريكي بسبب الثمن البشري والاقتصادي الهائل – ولا سيما في الجبهة العراقية – الذي جبته المحاولة الفاشلة لغرس قيم الديمقراطية الليبرالية في بيئة غابت عنها العلامات والخصائص الأشد أساسية لمجتمع مدني مفتوح.

إن خيبة الأمل العامة ومن مجلس النواب الامريكي المتزايدة بسبب الفرق الذي لا يني يتسع بين حلم التحول الديمقراطي والليبرالي السامي، وبين الواقع الحقيقي العنيف القاسي، أضعفت بالتدريج منزلة بوش برغم أنه نجح في أن يُنتخب لمدة ولاية ثانية. ويمكن بالنظر الى خيبة الأمل المتزايدة تلك (وعلى خلفية الازمة الاقتصادية الشديدة) أن نفهم فوز المرشح الديمقراطي براك اوباما على المرشح الجمهوري الصقري جون مكين في انتخابات 2008، ولكن تبين سريعا أنه كما تهاوت سريعا أحلام بوش المثالية بانشاء نظام جديد ديمقراطي مستقر في بغداد يكون لبنة مركزية في نضاله الذي لا هوادة فيه للارهاب العالمي، كما تهاوت في صحارى العراق، فشلت كذلك ايضا جهود اوباما في قيادة الدبلوماسية الامريكية في طريق مضاد يفضي الى انطواء متزايد في داخل القارة الامريكية مع تجاهل مطلق تقريبا لخطر الارهاب الذي يغطي المحيط الدولي.

وقد عمل اوباما بلا كلل مع انهاء تدخل الولايات المتحدة البري في العراق في 2011، كي يمحو من الوعي القومي رواسب عمليات 11 ايلول والاستراتيجية التي اشتقت منها، وعامل معاملة متسامحة نظم الحكم والحركات التي تعتبر في معسكر الاسلام المتطرف. وبرغم اغتيال المخرب الكبير اسامة بن لادن، تعود محاولة اوباما انكار التحدي المستمر للارهاب الاسلامي، تعود اليه الآن مثل عصا مرتدة على صورة انفجار الطوفان الفتاك لداعش ويعيد بذلك الولايات المتحدة في نفق الزمان مباشرة الى الجو الذي سادها بعد 11 ايلول. لأن الرأي العام الامريكي يمنح خيار الهجمات الجوية في العراق (وفي سوريا ايضا لكن بقدر أقل) بسبب الصور الفظيعة لقطع اعناق مواطنين امريكيين، يمنحه اليوم دعما واسعا.

وهكذا تضطر الادارة بعد ست سنوات تقريبا من التزامها بالتخلي عن استعمال «القوة القاسية»، تضطر الى أن تنعطف وتحصر العناية في جهد انشاء تحالف عالمي واقليمي واسع لمواجهة تحدي داعش المهدد جدا لمحيط الشرق الاوسط والعالم الغربي معا. فأمريكا اذا تعود الى العراق بمبادرة الفائز بجائزة نوبل للسلام خاصة وإن يكن ذلك بعمل جوي لا بري (الى الآن). فلم يبق سوى أن ننتظر لنرى هل تستمر الولايات المتحدة في المستقبل ايضا – بعد فشل الادارة الاخير في انشاء شرق اوسط جديد ديمقراطي بلا ارهاب، بوسائل دبلوماسية – على التأرجح بين القطب القتالي والقطب المهادن وبين قطب التدخل الزائد وقطب التمايز والانطواء على الذات.

 

اسرائيل اليوم