أنصتوا جيداً لبصمة أصواتهم !

ربما تبدو فكرة غريبة أو عادية أن نتخيل كل لاجئ فلسطيني اقتلع من دياره قبل 68 عاماً يمسك بيده اليمنى "قرصاً مدمجاً" مسجلاً عليه بصوته حكايته الذاتية، مشاعره وخوفه وقلقه وتشرده وأمنياته وحنينه.
كثيرة هي المبادرات والأفكار التي حاولت أن توثق التاريخ الشفوي للاجئين الفلسطينيين، بيد أن هذه المحاولات لم تكن، في أغلب الأحيان، واعية وجادة في تسجيل شهادات وروايات من عاصروا أحداث اللجوء القسري، ويبدو السؤال هنا مجحفاً أو مشككاً حين نستفسر عن عدد "الروايات الصوتية" التي وثقت الحكاية، حكاية تهجير جيل النكبة الأول ...!؟

في هذه المقالة، أحاول ليس إلا، أن أكون نصيراً للتاريخ الشفوي، لا سيما الروايات الصوتية؛ فخلال دراستي لماجستير الدراسات الدولية، تركيز الهجرة القسرية واللاجئين، كان يطلب منا أن نتطوع لساعات أسبوعياً؛ بغية المساعدة في أرشفة وثائق ومستندات ومواد خاصة باللاجئين، تجربة مثيرة أن تستمع لأناس عايشوا مرارة الهجرة القسرية، وهم يتحدثون عن أبسط التفاصيل، المفرحة والمؤلمة معاً، حتى تلك التي ترى فيها تمجيداً مبالغاً   للبطولة !.

في هذه الروايات فرصة لا تتكرر، حين تتيح للباحث أو للمؤرخ أو للصحافي أن ينصت بخشوع للكبار، وهم يسردون بإسهاب حكايات البلاد وقصصهم والمواقف والذكريات التي ما تزال عالقة في أذهانهم، ولأن لكل إنسان بصمة صوتية خاصة به، فكذلك هو اللاجئ فهو ملك قصته، التي هي أيضاً بمثابة بصمته الوحيدة التي لا يشاركه بها أي أحد.

بعد عمرها الذي يقترب من السبعين، عمر نكبتنا، ألم يحن بعد، أن نشيّد متحفاً حقيقياً أو الكترويناً افتراضياً نلم فيه إرث الوجع ومرارة النفي والاقتلاع، إرث الذاكرة الجمعية، تخيلوا بصمات أصوات اللاجئين في هذا المتحف، وهي تذكرنا بالفعل الكولونيالي البشع وما اقترفته العصابات الصهيونية من مجازر بشعة بحقهم.

هذا الموروث الثقيل سنسأل عنه يوماً أمام الأجيال القادمة. صحيح أن الصغار لا ينسون، لكن الكبار يموتون، هذه حقيقة لا مفر منها، والمستقبل القريب سيعاتبنا جميعاً؛ لأننا لم نحافظ على خزائن الماضي، هذه الخزائن المملؤة بأسرار الأجداد وبطولاتهم وهزائمهم وانكساراتهم الفردية والجمعية.

 

التدوينات المنشورة تعبر عن رأي كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي زمن برس.