الفلاحة والمدنية

(بنت الدلال.. بنت الأصل والفصل تفعل هذا بعد أن كانت نساء الحرَّاثين تخدم في بيت عائلتها.. تباً!), أخذت خديجة تُكلّم نفسها حين رمقتها الفتيات اللاتي يحتطبن معها بعين الشفقة.

حدث ذلك الموقف بعد تهجيرها قسراً عام 1948م من قريتها تل الصافي قضاء مدينة الخليل؛ عندما شاكت أناملها شوكة أثناء التقاطها عود الحطب فخرجت "آهها" تقطر نعومة وبدت "عقدة جبينها" حانقة؛ عندئذ ضحكت منها رفيقاتها وقلن بصوتٍ واحد: (والله بحقلك)؛ وبدلاً من حرف القاف لفظنَ الكاف.

إنها تلك الخديجة التي ارتدت يوماً وبنات عائلتها دوناً عن نساء البلدة الحرير والمخمل والجوخ؛ إلى أن جاء اليوم الذي أُجبرت فيه هي وكل بنات "العائلات المالكة" في فلسطين على التكيف مع الأوضاع الجديدة بعد النكبة.

لم يعرف كثيرون عن حقيقة الفوارق الطبقية بين النساء قبل الهجرة من فلسطين، بل إن الجيل الجديد يكاد لا يدرك أن النسوة الريفيات على وجه الخصوص وقع على عاتقهن أكثر مما على عاتق الرجال؛ فقد عملن في الحقول إلى جانب مهامٍ منزلية مرهقة مثل نقل الماء وجمع الحطب.

وتؤكد العجائز أن "شغل المَرَة كان أصعب من شغل الزلمة"، ومع ذلك فاحت منها رائحة عرق تصلح لإلهام خبراء العطور.. رائحةٌ هي أزكى من أي موادٍ أولية يستعان بها في صناعة العطر؛ أتعرفون ما هو أجمل من العنبر والمسك والسوسن وخشب الصندل وحتى الوردة التي يسمونها ملكة الزهور؟.. الأجمل من ذلك كله عرَق امرأة هو مزيج من روائح الأرض.. حيث شجرات الياسمين والتين والمشمش والتوت والزعتر والزيتون وخبز الصاج يدوخّك طِيبها.

وقعتُ مصادفةً على دراسةٍ شدّتني؛ للباحثة رفعة أبو الريش من جامعة بيرزيت التي جمعت صوراً للوطن المفقود التي تبرز الجانب الاجتماعي والاقتصادي في تلك الحقبة الذهبية، عبر إجراء عدد من المقابلات الشفهية مع نساء تعود أصولهن إلى عدد من المدن والقرى ممن عايشن هذه المرحلة.

أخبرتني رفعة أن أكثر ما فوجئت به أن حرية النساء القرويات في العمل والحركة كانت تفوق حرية بنات المدينة في هذا الجانب، بل إن المرأة في القرية كانت تغطي رأسها فحسب؛ بينما في المدينة كانت حتى "المسيحية" تسدل الغطاء على وجهها.

في أكثر هذه المقابلات ذُرِفت الدموع؛ وأغلب ظني أن كل عجوز منهن تمنت لو أنها تكون كــ"الأميرة المسحورة" تنام طويلاً وتركض في أحلامها بين المروج بدلاً من رؤيتها ما حلّ على رأسها.

وبالعودة إلى خديجة العزّة- احدى حالات الدراسة- التي خرجت من البلاد وهي ابنة ستة عشر ربيعاً؛ كان والدها يملك 400 دونم من الأراضي، والأبقار والأغنام تسرح في الخلاء، لم تكن نساء عائلة العزة يزرعن ولا يحرثن الحصيد ولا حتى يملأن جرار الماء من العيون، وعوضاً عن ذلك استعنّ بنساء البلدة سواء في الأرض أو في الخدمة في بيوتهم، وكانت الفلاحات يرتدين ثوباً من قماش اسمه "أبو حزين" محززٌ بــالخط الأخضر والخط الأحمر بخلاف من هن في مقام الهوانم.

أختها التي تزوجت من الفلاحين شاركت عائلة زوجها في الزراعة، فهي صارت محسوبة عليهم وفق العُرف؛ أما نساء العائلة كن ينشغلن بشئونهن الخاصة لا سيما الخبيز في ما يُعرف بــ"الطابون"؛ وتعترف خديجة "بقوا ولاد الفلاحات اشطر من ولاد العزّيات"، أما المرأة التي يرغب زوجها بالارتباط بأخرى كانت تهجره "فهذا من حقها" حسب رأيها، ولم تكن المرأة في عائلتهم ترث وفي مقابل ذلك تعيش معززة؛ فيما الفلاحة تتقاضى أجرتها تماماً كزوجها.

حقاً حكاياتها عن تلك الأيام أشبه بكنز مثير؛ ما أن تفتحه حتى تتطاير النساء السعيدات الجميلات القويات مهما تعددت الفروق.

خديجة أخرى ولكن هذه المرة من مدينة اللد، كانت عائلتها "أبو حليمة" تملك الأراضي لكن هم بأنفسهم "فلحوا وقلعوا" فيها، وكم تمنيت أن "أتربع" على العشب الأخضر بصحبتها وآكل من كوز "صبر" حالفها الحظ دائماً بأن يكون طعمه سكرا.

تمنيت أن ألتقط لها صورة وهي تقطف في صباها قرون البامية كبيرة الحجم؛ ثم يسيل الدم من يدها؛ فتستشيط غضباً وتدعو على "البامية"..

وعجباً لولعها بــ" لِدّها" وهي تصف خيارهم ورمانهم وكأنه من فاكهة الجنة، لقد جعلتني بكلامها أحنّ أكثر لليوم الذي سأعود فيه إلى قريتي "السوافير".

دُهشت قليلاً حين عرفت أن بسيطات منهن وصلن لمرحلة "الاستقلالية"، وهو ليس بالأمر الغريب على الفلسطينية.. تماما كجدة سميحة حبوب التي رسمت صورة عمل النساء في اللد؛ بقولها إن جدتها كانت تزرع الباذنجان والقرع والملوخية، ثم تبيع الأشتال في اللد والقرى المجاورة؛ كانت تدر دخلاً يضمن لها الذهاب للحج كل عام؛ أي أن المرأة أيضاً مُنحت قدراً "محترماً" من الحرية.

وكعمال الأراضي بعض النساء شمرنَ السواعد لتعليب البندورة وتقطيع الخيار والبطيخ؛ وهؤلاء أغلبهن كن من الأرامل؛ وقلةٌ منهن أزواجهن على قيد الحياة؛ تقول سميحة:"إللي إلها جوز كانوا الناس يحكوا عليها ليش طالعة تشتغل".. وفي المقابل فإن رجال ذلك الزمن رأوا أن المرأة التي تحافظ على بيتها وأرضها وتحلب غنماتها يجدر بها أن تُحترم.

ابتسمت فخراً وأنا أتأمل ما روته الحاجة زهرة أبو عرايس عن عمل النساء في مدينة الرملة؛ فهن لم يخرجن إلا للوظائف؛ فقد كان هناك معلمات في المدارس من بنات الرملة؛ وممرضات في مستشفى الرملة؛ و خياطات يعملن في بيوتهن.

وفي مقابل الكد هناك وقت للمرح ولـــ"شمة الهوا"، كان الناس يأتون من جميع أنحاء فلسطين إلى موسم النبي صالح الذي يشبه العيد.

"بنغل نغل"، هكذا تقول زهرة في إشارة منها لازدحامه، إذ كانت حماتها تشتري لها ولكل من سلفاتها ثلاثة فساتين على الأقل لتتباهى بهن حين تذهبن سويةً ليلاً لمتابعة فعاليات الموسم.

بعد الهجرة لم تعد الفروق السابقة ملحوظة؛ وتعالت عديدٌ من النساء على الجراح بالتوجه نحو العمل في بيوت المسيحيين في رام الله على وجه الخصوص، وبعضهن عمل في عيادات الأطباء، وكثيرات انكببن على غربلة القمح فمقابل كل "طحنة" خمسة قروش، أما الرجال فكانوا لا يزالون يعيشون هول الصدمة؛ وعلاوةً على ذلك لم تتوفر فرص العمل أمامهم إلا بعدما سمحت (إسرائيل) عام 1967م بمنحهم تصاريح للعمل داخل الأراضي المحتلة.

ولم تدهشني أبداً سارة أبو لطيفة ابنة مختار قرية صرعة قضاء القدس؛ حين كانت تصر بعد أن أُسدل ستار النهاية وهاجروا؛ على الذهاب نحو خمس عشرة مرة في كل عام إلى قريتها لتجلب الزيتون البلدي والخضرة بأنواعها وتبيعهم؛ تقول سارة: "كانت روحي ترد لما آكل من خير بلادي.. وتصيبني الحمى حين يطول البعد عن (صرعة)".. لن تصدقوا أن سارة لم تكن توفر مؤنة الدار من هذا الخير وحسب، بل إنها تمكنت من إلحاق جميع أبنائها بالجامعات.

وما بين ماضٍ يتشرّف تاريخه بنساء فيهن هذا القدر من الأصالة؛ وما بين "ثمانية وستين" خريفاً انقضت على الفاجعة؛ تدعونا إلى بذل جهد جبار لتسجيل الروايات الشفهية التي تكشف عن جوانب خفية بشأن واقع ما قبل الهجرة؛ كما فعلت الباحثة أبو الريش.. ما بين هذا وذاك أتذكر مقطعاً من أغنية شعبية لشادي البوريني:

يمّا بتختار الفلاحة ويمّا المدنية بتختار
الفلاحة بتصحى بدرية
بتعملي لقمة هنية لبنة وبندورة وخيار
لك خليها تنام الياسمينة ..دلوعة بنت المدينة
***
الله يسلملي الفلاحة.. قوية ومتل التفاحة

ولا تنس اللهجة المسموعة بتمّ المدنية الدلوعة
مدنية حلوة ورقيقة ..لهجتها متل الموسيقى
***
فلاحة ولا مدينة.. حسب القلب وحسب النية
بيكفي أنها فلسطينية ومنبتها منبت أحرار

التدوينات المنشورة تعبر عن رأي كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي زمن برس.