ع الحاجز!

بقلم: 
حاجز

بعد عناء المحاضرات وكشرة الدكاترة والنقاشات العقيمة، خرجت من ذلك السجن الذي يسمونه بالجامعة "جامعة القدس"، وذهبت لموقف سيارات رام الله "رام الله اللي مش عارفة وين الله حاططها".

وكان سائق سيارة عمومي ينادي: آخر راكب ع رام الله، فصعدت سيارة الـ "كارافيلا" او السيارة الملِكةَ كما يسمونها، وكانت تجلس بجانبي فتاة جميلة بعيونها التي تشعّ من البراءة و بوجهها الطفوليّ وبسمارها القمحيّ الفلسطينيّ.

انطلقنا الى رام الله على صوت عملاق الأغنية الشعبية، الراحل "شفيق كبها"، على صوت ترانيم أوتاره بأغنية "عيونك حلوين وليش بعدك عزابية"، وقطع السائق الأغنية لنستمع لنشرة الأخبار بصوت المذيع المخضرم المقهور الذي لم يتعلم شيئاً من الإعلام، وأعلن في خبره الأول عن استشهاد شاب على حاجز طيّار وسرقة جنود الإحتلال لجثمانه،{فبعد ان يأخذ الله أرواحنا يأخذون أجسادنا ومن قبل أخذوا أرضنا، خذوا ما شئتم ولكنكم لن تأخوا فلسطين من قلوبنا}، وفي طريقنا تفاجأنا بحاجز طيّار للجيش الاسرائيلي عند مفترق مستوطنة (معلي ادوميم) او تل أبيب الصغرى كما وصفتها الحمقاء تسيبي ليفني.

أشار جندي اسكتلندي حسب ما تشير ملامحه، أشار بيده للسائق بأن يتوقف، فتوقف السائق وتوقف السير وتوقفت الرئات عن العمل عندما شهق شاب بأنه نسيَ الهوية في البيت، فمن المؤكد انهم سيطلبون الهوية، أتى الاسكتلندي وفتح باب السيارة ويصوّب نحونا بسلاحه وإصبعه على الزناد، فنحن سنقتله بالعلم وبكتب الجامعة وبشعر محمود درويش وروايات غسان كنفاني ورسومات ناجي العلي.

قال لنا: (تعودات زهوت) وهي اختصار لـ أعطوني بطاقاتكم الشخصية لأفحصكم إن كان عليكم شيء، يفحصوننا بأرقامنا فنحن أصبحنا أرقام!، أعطيناه سبعة بطاقات مع بطاقة السائق ولكن بقيت بطاقة شخصية واحدة، فقال له الشاب: نسيت هويّتي في البيت، فأمره الاسكتلندي بالنزول من السيارة، وكنا ننظر الى الشاب بنظرة الوداع، فقبل دقائق سمعنا خبر إعدام شاب على حاجز، وبدأ الاسكتلندي بتفتيشه باستفزاز وأبقوه على حافة الطريق ويداه مرفوعتان، وذهب الجندي الى الجيب العسكري ليفحصنا مع جندي آخر.

سرحت بعيداً في سوريا والعراق واليمن والسودان وافغانستان، وعدت الى فلسطين وشهدائها واسراها، وتذكرت بما كان يقوله دكتور الجامعة، بأنه يجب عليك كتابة الخبر بموضوعية وحيادية والتأكد من الخبر بمصادر عديدة، ولكن هل يعقل ان تصبح حياة بشرية مجرد كلمات في خبر!، فكّرت بأن اتصل بزملائي ليكتبوا خبر، بأن هناك حاجز طيّار وقاموا بتفتيشنا ونحن ننتظر ذلك الشاب المجهول الهوية والمصير ولكنني تراجعت سريعاً، فقد يصبح الشاب أسيراً قبل أسره وشهيداً قبل استشهاده في نشرة الأخبار، فإعلامنا يتأكد كثيراً قبل أن ينشر الخبر.

وعاد الاسكتلندي بهوياتنا الخضراء او بورق اللوف والسبانخ، بعد ان تأكد بأن أرقام هذه الهويات صحيحة وليست مزورة ويمتلك اصحابها شهادة "حسن سلوك"، {كيف نُفهم ذلك الأبله بأن الهوية كلها مزورة فهذه ليست هوياتنا}، وأشار الجندي بيده الملطخة بالدماء للسائق بأن يتقدم قليلاً ويصطفّ جانباً، فهذه السيارة لا يوجد فيها ارهابيين الا ذلك الشاب المشتبه به.

وعند اول دورة لعجل السيارة، صرخت تلك الجميلة ذات العيون البريئة الجالسة بقربي، صرخت بصوت خفيف مرتجف: والشاب! شو رح يعملوا فيه!.

قلت لها وانا انظر الى الشاب بنظرة الوداع: بزيادة شهيد!.
فهمرت بحنجرتها، فنظرت اليها لأجدها تزأر بعينيها، وأكاد أجزم لو كان بيدها سكين لطعنتني دون أن يرفّ لها جفن، بدلاً من تطعن ذلك الجندي .. فـ طعني حلال، وتحوّلت تلك البريئة السمراء الى مصاصة دماء.

ارتبط لساني وتوقف قلبي عن الخفقان خوفاً على الشاب، ويْلي!
فـ بأي لحظة يمكن تخرج تلك الرصاصة الملعونة الى صدر الشاب، وانا امزح!، وسألت نفسي ماذا فعلت يا هشام وماذا تفوهت ولماذا مزحت وبماذا أخطأت!!!، ولكنني خائف عليه وأرتجف من شدة الموقف، أكثر من هذه الفتاة التي تدعي بأنها كتلة من العواطف، نعم .. ألم تسمعي يا عزيزتي بالضحك من الخوف؟!.

أنقذ قلبي الشاب الذي خفق قلبي لأجله بفتحه باب السيارة، فقد تركوه جنود العالم يذهب بحال سبيله، فتركه الاسكتلندي والألماني والبريطاني والنمساوي وحتى العربي ايضا، وتنفسنا الصعداء بعد ان عاد الينا حياً، وأمر الجندي الاسكتلندي السائق بصوته هذه المرة وليس بيده، فقال له:(صاع)، أي اذهب بالعربية.

وأكملنا طريقنا الى رام الله، ونحن لا نعرف اين ومتى سيكون الحاجز الآخر، فقد استقرّت انفاسنا بعد ان بقيَ الشاب حياً ولكن لم يستقرّ قلب الشاب، فالخوف كان واضح بعينيه ليس من الموت بل الخوف من ان يموت دون ان يأخذ ذلك الاسكتلندي معه، اما مصاصة الدماء التي بجانبي فلا اعلم هل بقيت عينيها تزأر ام لا، فإنسان مثلي يخاف زئير العيون ويحرّم على نفسه النظر إليها مرة أخرى.

اما السائق فقد أشعل سيجارته الغالية الرديئة، سيجارة يعبد، سيجارة فلسطينية مئة بالمئة وخنقنا برائحتها { لا بأس، اخنقنا بها فهي من رائحة فلسطين}، وقام بتشغيل المسجل ليسمعنا مواويل العملاق شفيق كبها، بموال: "عونك يا وطن يابو الحضارات .. أحبك لو صرت كلك سكاكين"، وهذه المرة لن يقطع الأغنية لنسمتع لنشرة الأخبار، لنشرة ليست سوى صوت او حروف او صورة، اما المشاعر فلا شيء يستطيع ان يوصفها، ولا احد بهذه المعمورة يستطيع ان يشعر بها الا من كان في الحدث.

ولقد كنا في الحدث .. فلا حاجة لنشرة الأخبار.

التدوينات المنشورة تعبر عن رأي كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي زمن برس.