الهبة الشعبية و"الحرب النفسية الخفية"

يفشل الكثيرون في تحديد السبب الرئيسي في استمرار الهبة الشعبية الحالية، والتي منحتها إسرائيل مدة لا تزيد عن شهر ونصف، ولكن يبدو أنها ستتخطى الحدود الزمنية الإسرائيلية، ويرجع ذلك بالأساس للأدوات التحريضية المتوفرة في عصر التكنلوجيا وسهولة الوصول إلى الجمهور عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
إسرائيل أدركت متأخرة الخطورة الفعلية لهذه المواقع إبان العدوان الأخير على قطاع غزة، حيث عملت مواقع التواصل الاجتماعي على قيادة الحرب النفسية لفصائل المقاومة بل ولعامة الشعب الفلسطيني أكثر مما فعل الاعلام المقاوم وحافظت على تماسك الجبهة الداخلية المجمعة على المقاومة كخيار أمثل للصمود ومقاومة المحتل.
بل تعدى الأمر كونه قياديا أو عشوائيا بل أنتج "المفسبكون" ولأول مرة مفردات اعلامية لا مثيل لها على مر التاريخ حتى انني قلبت صفحات كتب الاعلام ونظرياته فلم أجد للممارسات الاعلامية الفيسبوكية أي مثيل، فلأول مرة نشهد على أن من يقود الحرب النفسية هم أفراد من الشعب لا يتبوءون أية مناصب في الدولة أو في وسائل إعلامه الرسمية.
من هنا تكمن خطورتها وهي التي تشعل حاليا فتيل الهبة الشعبية والتي تتدحرج شيئا فشيئا والنتيجة الحتمية هي وصولها لانتفاضة شاملة لا تبقي ولا تذر، فالتحريض باستمرار عمليات الطعن والدعس ومجابهة القوات الاسرائيلية ولأول مرة لا تصدر عن الفصائل الفلسطينية بل عن صفحات شبكات التواصل التي تؤيد أي عمل مقاوم ضد المحتل.
بل إن معظم قادة الفصائل وحتى المقاومة منها تهرول خلف تلك الصفحات لركوب هذه الهبة دونما جدوى تذكر، فدائما ما تسبقهم تلك الصفحات بالتبريكات لعملية قامت هنا او هناك وتحرض على المزيد من تلك الأفعال، وتعتبر هذه الصفحات راصد حقيقي لأي أمر يطرأ على الحالة الفلسطينية في ما يتعلق بمجابهة المستوطنين على تخوم القرى والبلدات الفلسطينية القريبة من المستوطنات الاسرائيلية ونداءات الاستغاثة على سبيل المثال، وغالبا ما تكون الاستجابة وردة الفعل في الشارع سريعة.

وبالعودة لمفهوم الحرب النفسية والذي غالبا ما يكون منظما بين دول متناحرة أو حركات وأحزاب مثلما كانت الحرب النفسية بين فصائل المقاومة وإسرائيل في الحرب الأخيرة على قطاع غزة والتي نجحت المقاومة الفلسطينية في الانتصار نسبيا في تلك المعركة النفسية، حينها نجحت وإلى حد كبير صفحات الفيس بوك بمساندة الرواية الفلسطينية إبان تلك الحرب، حيث بينت أنها قادرة على الأخذ بمنطق المنافر عن الدعاية النفسية للفلسطينيين وابتعدت لأول مرة عن كونها جمهورا متلقيا للحرب النفسية بين الطرفين "المقاومة في غزة واسرائيل".
وهذا يدعونا إلى الوقوف مليا أمام هذه الظاهرة الجديدة من تحول فئة معينة من الناس المتلقين للرسائل الإعلامية إلى مصدرين لتلك الرسالة ودفع بعضهم البعض لمؤازرتها والذود عنها.
حرب الإعلام المركزة والتي يتناساها جنودها الرسميون من الإعلام الفلسطيني هي تأسيس لحرب نفسية خفية بإشارات متذاكية وبرسائل يراد توصيلها بطرق خبيثة، هذا مايحدث حاليا في وسائل الإعلام "الإسرائيلية" الناطقة باللغة العربية، وما أكثر تلك الوكالات التي افتتحت حديثا على مواقع التواصل ومنها "موقع المصدر" وموقع "إسرائيل بدون رقابة" وليس آخرها "تايمز أوف إسرائيل".
كل تلك الوكالات افتتحت لمجابهة الخطر الداهم التي مثلته الصفحات المجتمعية للفلسطينيين على شبكات التواصل، ولعل هذا ما يؤشر على ثبوت نظريتي لظهور نوع جديد من الحرب النفسية والتي اطلقت عليها "الحرب النفسية المجتمعية" نعم ولم لا تكون كذلك والمجتمع الفلسطيني "العادي" هو من ينتج هذه الرسالة الإعلامية الهامة في ظل غياب منظومة إعلامية فلسطينية حقيقية لمجابهة "اللسان" والإعلام الإسرائيلي المهاجم لكل ما هو فلسطيني؟
حقيقة إننا إمام واقع إعلامي جديد أدواته ومحركوه لم يسبق لهم أن مارسوا عملية الإعلام التقليدي أو انخرطوا فيه ورغم كل هذا استطاعوا أن يلفتوا أنظار المهتمين بالقضية الفلسطينية بل ودفعوا جهاز الشاباك الاسرائيلي بتخصيص وحدة كاملة لمراقبتهم وملاحقتهم والعمل على إغلاق صفحاتهم، وأمام هذه الصورة فإن من يقود هذه المرحلة الحرجة في تاريخ القضية الفلسطينية هم "المفسبكون" هم وحدهم.
 

التدوينات المنشورة تعبر عن رأي كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي زمن برس.