في بيتنا كاتبة!

صورة توضيحية

أختي في غرفتها، على بعد أربعة أمتار من غرفتي، تكتب. أنا مرعوب من الفكرة صراحة، مرعوب من أنها تكتب وتترك اعترافاتها على الورق. خائفٌ وأغار، هكذا أبرر الأمر لنفسي أنني أخاف دخولها إلى عالم الكتابة، ومرعوب من الرجال المتربصين الذين يبحثون عن فضائح في ما تكتبه النساء، ولن يصدقني أحد حين أقول ذلك، حتى أنا لن أصدق نفسي. هي أيضًا لن تصدقني حين أقول لها إنها لا تحتاج إلى ممارسة الكتابة.

في الكتابة، كل شيء يأتي من القلب والمخيلة، هو ما تريده الروح أن يكون حقيقيًا

لم أقل ذلك لها صراحة، لكنني قلته في نفسي، إذ ماذا تريد بنتٌ في الثالثة والعشرين، تدرس الماجستير في "جامعة بير زيت" من الكتابة؟ ماذا تريد من الحرارة، والنار المشتعلة، ومن هذه الطبيعة القلقة والقاتلة التي في الكتابة؟ لم لا تكون أمًا فرضًا؟ أو لم لا تستمر في أبحاثها في الدراسات الإسرائيلية؟

قضيت ليلة كاملة في الرطوبة بعد أن ألقت لي نصها الأول، لم أفكر أنها حرة، هذا بعيد عن تفكيري النمطي الذي ينتمي إلى منظومة اجتماعية وفكرية ودينية تقهر الرجل قبل البنت. فكّرت أول الأمر في كلام أصدقائي عن صديقتي الكاتبة. ثلاثة أصدقاء وصبية من فلسطينيي 48 جاؤوا إلى زيارتي في نابلس. في الكرسي الخلفي للسيارة، بعد أن أكلوا الأفوكادو والحمص في مطعم في السوق، تحدثوا عن الكاتبة الفلانية أنها لصة وتسرق أفكار نصوص صديقنا الشاعر الذي لا أعد ما يكتبه شعرًا.

بالمناسبة أصدقائي الثلاثة يلتقطون الصور مع الكاتبة السراقة ويمدحونها أيما مديح. فكرت بالبنت التي جاءت تشكو لي تعرضها للتحرش من قبل كاتب فلسطيني مغمور يعيش في الخليج، تذكرت صديقي الكاتب وهو يرجوني أن أطلب منها الا تفضحه، تذكرت شكوى صديقتي الروائية من تحرش كتابٍ في رام الله ليعطوها جواز مرور إلى عالم الثقافة والأدب، ثم تذكرت نفسي أنا الذي لا أختلف كثيرًا عن أصدقائي، كيف كنت أتحرش بالكاتبات وأتتبع أخبارهن في الجلسات، وأنتظر صورهن على الفيسبوك وأكمنُ لهن بالرسائل والكلمات. فكرت بهن جميعهن وأردت الاعتذار من أختي.

في الكتابة، كل شيء يأتي من القلب والمخيلة، هو ما تريده الروح أن يكون حقيقيًا. ماذا يريد قلب أختي؟ لا أعرف إلى أين يريد الذهاب. هو بالأكيد مختلف كليًا عما كنت أريده أنا، قبل أن تكتب، كنت أفكر أني أريد أن أراها أمًا، كنت مستعجلًا لأرى ذلك، أي أنني كنت أراها ضمن نمطية الدور الذي منحه لها الله والمجتمع، لم أفكر بأبعد من ذلك.

بعد ذلك كانت عين أبي تقرأ هي الأخرى دون أسئلة مثل تلك التي طرحتها على نفسي، كان يقرأ سعيدًا ومبتهجًا، أما أنا الذي يمارس الكتابة كل يوم وينشر في الصحافة العربية، كان يقرأني  دون أن يرسل أية إشارة او إيماءات، وحين كنت أسأله عن رأيه حين يقرأ لي نصًا في الجريدة، كان يقول لي إنه لا يفهم ما أكتب، هذا يحتاج إلى متخصصين حسب رأيه، وفي الحقيقة هذا سبب غيرتي وخوفي.

هناك دعاة كثرٌ لها لكن ليس هناك حرية. وهناك دعاة حداثة لكن الحداثة نفسها غير موجودة

تضع الكتابة صاحبها في امتحانات مثل هذه، ذلك أكيد، أما أن يأتي امتحانها في بيتي وداخل غرفتي، فذلك أقسى ما يمكن أن يحدث مع كاتب عربي تعود أن يعزل بيته عن حرارة العالم الخارجي، إذ ماذا لو تفاجأت في الغد برجل من لحم ودم يختبئ خلف كلمات أختي؟ كيف أستطيع الكتابة عن اشتهائي لامرأة وعن حرماني العاطفي والجنسي، ومن ثم أمارس الرقابة الصارمة على أختي؟ كيف أكتب عن الحرية ومن ثم أقمع البنت الصغيرة في داخلي، وإلى جواري أيضًا؟ ومن ثم لو جاءت أختي بنص لا أستطيع أن أكتبه -لأنني أخجل من عيونها- ماذا أفعل إن أخذت الكتابة كمشروع وطريق حياة؟

هذه الأسئلة ستبقى تواجه العقلية الذكورية العربية في الكتابة، ما دام التقمص يجري على الورق فقط. هناك دعاة كثرٌ لها لكن ليس هناك حرية. وهناك دعاة حداثة لكن الحداثة نفسها غير موجودة، ما دام الكتاب يعيشون على تقمص الأدوار، أدوار الحرية، وهم يخشون نيرانها، لذا سوف تبقى البنت الكاتبة محط تحرش واتهام دائمين.

المصدر: 

التدوينات المنشورة تعبر عن رأي كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي زمن برس.