باريستنا الجميلة!

صالح مشارقة

انظر باريستنا الجميلة: قال صالح لي ونحن نقف وحيدين في صمت الجسر الذي يصل بين مشفييّ زايد ورام الله، كانت رام الله من اتجاهيّ الجسر تبدو فعلا مختلفة في صباحات السادسة والنصف.

بعد قليل سيدخل صالح غرفة العمليات لعمل (قسطرة) لقلبه الذي ملأه قهوة وكراسي و دخانا على مدى سنوات طويلة، ثم أرهقه دون أن ينتبه بتفاصيل هموم وظيفتين، نهارية وليلية. أيام العيد الفائت أمضاها صديقي الدمث في غرفة صغيرة جدا، كنت أزوره مبكرا جدا، حاملا قلقا و كتبا وكعكا وذاكرة جاهزة للتفكيك واللمس والمراجعة، كانت فرصتي لاسترجاع صالح الذي خطفته مني ضرورات الحياة، التي لم أفهمها حتى الآن وإن كنت أتفهمها، أسماء أدبية كثيرة ناقشنا وجودها الأدبي، المفبرك والحقيقي، مرض فهم كل شيء، أولئك، الذين يعرفون كل شيء حتى في البواسير وزراعة الحبق وصناعة الصابون والشعر الشعبي والمسالك البولية، لعنة الفيس بوك التي أقنعت الكل بأن الزمن يتكىء على أكتافهم، رعب سهولة أن يصبح أي شخص روائيا، جمال أن يكون في الحياة بنت اسمها يمام، كان صالح صريحا على غير عادته وهو يشتم تعيسي الشهرة وتجار الكلام وفاسدي الاعلام، ومستمني (الفيسك بوك) الذين لم يواجهوا مثلنا الحياة بالحواس الخمس، كم هم مساكين،! يجلسون أمام الحواسيب، ينضحون عرقا وأوهاما.

ونسكت فجأة أمام مشهد دخول شاب غريب أقتحم نقاشنا وهو يقول لنا ذاكرا اسمه وكأنه شخص آخر، (ربيع بدو يكنس، ربيع بحكيلكم مرحبا، ربيع بطلب منكم رفع أجريكم اشوي عشان يكنس تحت التخت،) ُصعق صالح حتى دمعت عيناه وهو يصغي الى الملاك المتوحد، (كأنني أسمع من صوته موسيقى كونية،) همس صالح لي وربيع يباشر عمله بصمت أبيض، بينما رواية ( حلم العم لدستوفسكي) تصغي لثلاثتنا وتبتسم أو تحزن.

ساعات طويلة أمضيتها مع صديق المخبأ الأول،( كنا في منتصف التسعينيات، نختبىء منذ العصر، حتى ساعات الليل المتأخر يوميا دون انقطاع، في نقابة المهندسين بتواطؤ وتفهم غير مفهوم من مديرها غريب الأطوار المهندس محمد الزبيدي، بحوزتنا عدة التحطيم اللازمة لدفن مدينة مملة تحت وعينا الشبابي الجديد، كنا هناك نمدد على مشرحة وعينا المجنون جسد اللغة السائدة، ونفكك بحماسة لقطاء طريق عنيدين وحزن أنبياء جدد جوعى و غير شرعيين، الجملة الأدبية المتباهية بأقراطها القديمة وحليّها التي عفا عنها المكان والزمان، فاصلة فاصلة،معنى معنى وايقاعا ايقاع، ساخرين بمتعة من يباس جلدها، وعفن يديها).

الآن وأنا أجلس مع صالح أقول له: هزمتنا لغة العصر يا صديقي، صرنا كهولا، نرتعد في غرفة صغيرة، في أول أيام العيد، وحدنا بعيدين عن العالم، نخاف من المرض، نتوجس خفية من ورم مفاجىء أو سكر مندفع، لم تعد مهمة تغيير اللغة تعنينا، ولا يهمنا معرفة إن كانت تجربتا اللغوية أثّرت على لغة الجيل اللاحق أم لا، كل ما نريده الآن هو تنفس هادىء لا يطيح بعضلة قلبنا، حين نصعد طلعة البريد، أو حين تفاجئنا في شارع ركب عيون امرأة قادمة من وعي مستقبلي لا نعرفه، كل ما أريده أنا شخصيا، يدان فقط يدان، قادرتان على فتح باب (فورد) المخيم حين الصعود، وإغلاقه حين النزول.

بعد غد سيخرج صالح من المشفى، سأجلس في السادسة صباحا معه جلستنا الاخيرة، صحبة الكعك والقهوة وحديث الاهل و الكتب، قبل أن يغادرني الى الضرورات، سنقف على الجسر لآخر مرة وسنصرخ معا و وسع المتاح من عضلتي قلبنا في وقت واحد:
شكرا للرب لأنه خلق لنا رام الله، باريستنا الجميلة.

التدوينات المنشورة تعبر عن رأي كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي زمن برس.