الوعي الزائف في جامعة بيرزيت

مَر ولا زال يمر العالم بتحولات كبيرة في جميع بقاعه المعروفة والمجهولة منها، مروراً بالحضارات المختلفة وانتاجها التكنولوجي والفكري حضارياً وعالمياً منذ عشرات الاف السنين، ولكن حركة التاريخ لا تعود للوراء فهي ليست افقية بخط مستقيم تماماً والتعمق في الماضي والتخطيط للمستقبل تفترض مرونة الزمن والتاريخ، وتكرار الاحداث لا يفترض دائرية حركة التاريخ بل هي خليط بين كل هذه التعقيدات اي ان الحركة الفكرية قد تتاخر عند البعض وتتقدم عند البعض الأخر، وشهد العالم بداية الفكر الديموقراطي قبل اكثر من ألفي عام في اليونان وحتى يومنا هذا فهذا المفهوم لم يُطبق "فعليا" على المستوى العالمي ولم يبدأ انتشاره بشكله الكبير الا بعد انهيار الاتحياد السوفييتي.

فتطور الفكر الإنساني لا يسير بشكل متساوٍ ومتوازي في كافة العقول، والعقل الوجودي لازال يخضع للمناوشات والعقبات، وللعالم العربي نصيبه الأكبر من هذه العقبات والمناوشات والقيود الفكرية والعقلية والغاء أي مفاهيم فردية أو جماعية، مع التغييب الكامل لمفهوم الديموقراطية والتحديث، وللحديث خصوصية اخرى عند الحديث عن بلد محتل فعملية الزمن والتاريخ والتطورات السياسية تخضع لظروف واطر اعمق واكثر شراسة من غيرها. وهنا فلسطين التي وتحت مسمى محاولة الخضوع لحكومة ديموقراطية فلسطينية على جزء من اراضيها، لترسيخ مبادئها وتدعيم مواقفها، وهذا ما بدى لنا من انتخابات ومؤسسات وتنظيمات داخلية. وكان ما يبدو ان فلسطين تتجه لتصبح مشروع دولة ديموقراطية. بافتراض وجود قاعدة مجتمعية مدنية.

وكان لفلسطين أبنائها من الكُتاب والشعراء والمفكرين  ممن نشأوا في داخلها او خارجها ولهذا اثر كبير في مشروع هذه الدولة التي بدأت بمرحلة ما في إنشاء الجامعات وحشد الطاقة الفكرية الفلسطينية في الداخل بدل تشرذمها، وكانت هذه الجامعات منبراً لنثر المقاومة وشعر الوطنيين باجساد طلابية قوية وفعالة ومؤثرة قبل وبعد مجيء السلطة الفلسطينية ولعقد من الزمان بعد ذلك، حتى انتقل العمل الطلابي الى عمل مناطقي وحزبي بزيادة مطردة محولة الأثر الإيجابي الى سلبي الى أن وصلنا الى مرحلة فيها جسد طلابي ممزّق ومقسّم الجهد تحت رايات مختلفة وايديولوجيات متعدد كلّ منها تتمتّرس حول ما يمليه عليها جسدها الحزبيّ الذي تتبعه، وهنا ساخصص حديثي في جامعة سميت بجامعة الشهداء لما قدمته للوطن وهي جامعة بيرزيت، وفيما أصبح الطلبة اقل ثورية واقل تماسكاً واشد شرذمة وانكماشاً على انفسهم لا بالمعنى الوجودي بل بالمعنى الانعزالي واختزال النفس في اطار الجسد لا المكان، فَمَلَكَتْنا هذه الحركات الطلابية الحزبية ضحالة الفكر الوطني وضآلة المعنى الوظيفي للمقاومة بعلمها او بجهلها، فهم يتحكمون بهذه الطريقة لانهم بالضرورة محكومون بعبودية أشد، مما نقل الجامعة من مرحلة التأثير الى مرحلة التأثر لا وبل انحدار تدريجي يهوي لانحطاط احياناً يحاصر الغالبية الساحقة الصامتة بين جسد تعليمي وحركات طلابية. وكأي طالب سيصاب باهتراء في الفكر التنظيمي وبدل من ان يبدأ في انتاج فكري مستقل.، يصبح اما تابعاً للتابعين او بعيد حد الجهل بما يدور حوله من سيناريوهات وكولسات أبلغ ما يمكن تسميتها ب "مقاولة الانتخابات" فأي فعل "ديمقراطي" ارتبط باشخاص ترى في الطلبة "خرافاً" لجزها.  

وهنا يظهر الغياب الكامل في اتجاه الانغلاق القِبلي السياسي للوعي الديمقراطي في هذه الجامعة "العريقة" باغتراب فكري وانتماء وجداني وتضييق للعمل المؤسسي والحزبي وحتى التعليمي فأي تقدم يفترض بالضرورة وجود نقطة الادراك اللاحقة للمعرفة والسابقة على التغيير بعد الوعي، وحال الرفض الشامل التي نعيشها تفترض بالضرورة اننا لازلنا في الطريق الى حالة الوعي الأول دون تحديد اي مسافة وزمن بالشكل العام وليس بالتخصيص; وإن كان في التخصيص ضرورة لاظهار مكمن الشرخ والفجوة فأبسط الأمثلة هو ضحالة الفكر السياسي لدى طلبة العلوم السياسية وشبه انعدام لمعاني العمل السياسي باي شكل كان فلا وعي ولا توعية ومكمن العملية في المصالحات والعلاقات والتنصيبات مشيراً لمدى هشاشه البنية الفكرية الحديثة في جامعاتنا، حتى في ذات المعترك الذي نعيشه يومياً، والجزم لا يكون اكيداً بمسار الخط الزمني للوعي الزائف داخل وخارج الجامعة ومتى بدأ فعلياً دون التطرق والفهم العام لمحيط البيئة السياسية والاجتماعية، وما اوصلنا اليه العبد والسيد معيدين الينا بدائية التفكير وقُبح السياسة بالإبقاء على إرث عربي بدوي غابر لا يسمن ولا يُغني من جوع، تكون فيه السياسة جسراً لا فكراً وانتاجاً.

فأي جهل أكبر مما نحن فيه  وأي خوف حملناه فقد اصبح الطالب يكره " حقه " ويستسخفه بل وييشعر بالنفور منه فأي حال وصلناها، واي نتيجة اسوأ سنصلها واي عقدة ونظرية جديدة ستُسقط علينا، فهل اصبحت الجامعة مكاناً لجمع شمل الجهلة والمستهلكين؟ ام صحراء بنصف منارة لا تحمي ولا تنير؟. ومتى ستنتقل السياسة من مجرد " علامة تجارية" تحملها الاحزاب والمناطق الى فعل تطبيقي واقع قادم.  فحاضرنا الذي نحيا الآن هو مستقبلنا، ولا شيء يقف بيننا وبينه سوى تلك الخطوة الأولى ، التي إن نضجت تجاهها ارادتنا كان لنا كل ما نريد أن نكون حتماً لا حلماً ولا أملاً زائفاً يزول عند أول مطبّ او معترك، فنحن وبحمد الله خلقنا من طينة أرض لا تعرف بطبعها الجينيّ الاصيل معنىً للإنهزامات.

التدوينات المنشورة تعبر عن رأي كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي زمن برس.