.. وماذا بعد الاحتفال ؟!

habeeb

أخفقت أجهزة الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية في تقدير موقف منطلق من المعلومات والتحقيقات المتوفرة لديها، وها هي تسقط مع قادتها الذين اعتمدوا عليها في الرهان على أن أبو مازن سيتراجع في اللحظة الأخيرة عن تقديم طلب عضوية فلسطين في المنظمة الدولية، كافة تقديرات هذه الأجهزة المرموقة لم تصمد أمام الإصرار الفلسطيني على الإطاحة بالأوهام، في وقت نجحت فيه أجهزة الأمن الفلسطينية، بالوفاء بتعهداتها، ونجاح تقدير الموقف لديها، عندما عملت على أن تبقى التظاهرات الفلسطينية المؤيدة لخطوة القيادة الفلسطينية في حدودها السلمية، وإسقاط رهانات إسرائيلية من اتخاذ هذه التظاهرات ذريعة لانتقال ردود فعل على حساب الخبر الأول والأساسي المتعلق بالتوجه الفلسطيني إلى مجلس الأمن. هذا النجاح، حيث فشلت أجهزة الاستخبارات الأميركية ـ الإسرائيلية، سيشكل حجر الزاوية في طبيعة الإجراءات العقابية التي قد تتخذها إسرائيل وأميركا رداً على الإصرار الفلسطيني.

ذلك أن أحد أهم المعطيات الأساسية التي برزت من خلال التحدي الفلسطيني بالتوجه إلى المنظمة الدولية لنيل عضويتها للدولة الفلسطينية، يعود بدرجة أساسية إلى متانة مؤسسات الدولة على أساس ما أنجزته حكومة فياض من خطتها الطموحة لبناء أسس الدولة الفلسطينية، خلال العامين الماضيين، وهو ما استندت إليه في الجوهر خطة القيادة الفلسطينية بالتوجه إلى مجلس الأمن لنيل عضوية هذه الدولة التي أشادت كافة مرافق ومؤسسات المجتمع الدولي المعنية باستكمال بناء أسسها المادية على الأرض، في شتى المجالات، بما فيه مجال الأمن، الذي أثبت نجاعته في توفير الأمن للمواطنين الفلسطينيين أولاً، ولكبح جماح المستوطنين والاعتداءات الإسرائيلية من جهة أخرى تحت عنوان التنسيق الأمني، بحيث لم يعد بالإمكان تجاهل ما أحرزه جهاز الأمن الفلسطيني من إنجاز، لصالح كافة الأطراف، فيما لو نفذت إسرائيل والولايات المتحدة تهديدها بإجراءات في مواجهة الإصرار الفلسطيني، ونجاح أجهزة الأمن الفلسطينية في وضع حد لأي تصعيد في المواجهات على خلفية الاحتفالات الشعبية بالإنجاز الوطني الفلسطيني، سيظل معياراً مهماً، لإدراك الخسارة المتوقعة للمجازفة في تصعيد الإجراءات العقابية الأميركية ـ الإسرائيلية.

ولم تكن النجاحات المتحققة في اطار خطة فياض، سهلة وسلسة، رغم ما توفر لها من عناصر المقاومة والمواجهة، فإضافة إلى العقبة الأساسية المتمثلة في الاحتلال، وإدراك حكومة نتنياهو أن هذه الخطة، ما هي إلاّ أحد أهم أشكال مواجهة الاحتلال والسياسة الإسرائيلية في ظل التصعيد الاستيطاني، فإن هناك من اعتبر هذه الخطة وكأنها تسوغ للاحتلال واستمراره، وجاء اعتماد القيادة الفلسطينية على نجاح هذه الخطة في التوجه إلى المنظمة الدولية لحساب عضوية فلسطين فيها، الرد الحقيقي، وعلى الأرض، على هؤلاء الذين أعمتهم حساباتهم الشخصية والفئوية عن تقدير حقيقي لهذا الإنجاز الذي ما كان للقيادة الفلسطينية أن تذهب بقوة وإصرار إلى المنظمة الدولية لتحقيق الهدف السامي للنضال الوطني الفلسطيني بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، لولا قناعة المجتمع الدولي بأن أسس هذه الدولة، مقامة على الأرض، وهي في وضع أفضل بكثير، مقارنة مع دول غنية وقائمة فعلاً وأعضاء في المنظمة الدولية.

كثير من الكتّاب والمحلّلين السياسيّين، كتبوا أكثر من مرة، نقلاً عن فكرة جاءت في إحدى قصائد شاعرنا الراحل الكبير محمود درويش 'ما أكبر الفكرة.. ما أصغر الدولة'، واستخدموها في سياق مختلف لتحقير الدولة الفلسطينية المرتقبة، ساخرين من حجم الدولة الموعودة، متوقفين عند حدود عظمة الفكرة، دون أن يتوقفوا عند عظمة تجسيدها على الأرض بمؤسساتها وبنائها وخططها المنفذة، صحيح أنه غير معترف بها حتى الآن من قبل المنظمة الدولية، إلاّ أن ذلك ليس سبباً موجباً، إذ إن تحقير الدولة ما هو إلاّ الوجه الآخر لتحقير الفكرة، على عكس ما أراده درويش عندما رددها في شعره.

وفي سياق مواز، ها هي دولة كبرى على المستوى العالمي، وأخرى تمتلك من بواعث وعناصر القوة ما يحيل الأمن والاستقرار إلى فوضى وتهديد، الولايات المتحدة وإسرائيل، باتتا دولتين صغيرتين، خارجتين عن الشرعية الدولية ومنبوذتين من المجتمع الدولي، بينما دولة فلسطين كبرت بشعبها وقيادتها، وتوجت نفسها، من دون أن تكون عضواً حتى الآن في المنظمة الدولية عروس الدول، التي احتفلت بها الوفود المجتمعة في القاعة الكبرى في الجمعية العامة للأمم المتحدة وسط تصفيق وتشجيع لم يسبق له مثيل، في وقت أشاحت فيه هذه الوفود بوجوهها لدى إلقاء كل من أوباما ونتنياهو خطابيهما في هذه القاعة.

انتهى الآن الاحتفال، الولايات المتحدة وإسرائيل تضعان الخطط لمواجهة استحقاقات ما بعد هذا الاحتفال، مواجهة مفتوحة مع القيادة الفلسطينية، الأمر الذي يضع على عاتق هذه القيادة مسؤوليات جسام، فما قبل خطاب أبو مازن، هو بالتأكيد غير ما بعده، وهذا يتطلب أكثر من أي وقت مضى، تقييما وتقويما للوضع الداخلي الفلسطيني ابتداءً، وهذا يعني عند ترجمته إيجاد مناخات حقيقية، للانتقال من وضع الانقسام الحاصل في الداخل الفلسطيني إلى مصالحة حقيقية تعيد للموقف الفلسطيني وحدته المفقودة، إلاّ أن ذلك لا يكفي رغم أهميته.

إذ إن المطلوب في هذه المرحلة الأشد خطراً على القضية الوطنية إعادة النظر بأدواتنا، والمقصود هنا بلا تردد، منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها، من إصلاح وتصويب يتطلب تغيير الأدوات، هياكل ومؤسسات وأفراداً، وبصراحة أكثر، ورغم هذا الإنجاز الكبير، فإن هذه الهياكل والأدوات لم تعد صالحة للتعاطي مع استحقاقات المراحل القادمة، وإذا كانت دعوتنا هذه قد تكررت عدة مرات في السابق، فإن خطوة بمثل هذه الجرأة التي أقدمت عليها القيادة الفلسطينية، تتطلب جرأة أكثر في اتخاذ القرارات الداخلية للمواءمة بين استحقاقات المرحلة المقبلة وأدواتها المطلوبة، وكما قلنا، فإن فترة الاحتفال قد انتهت، وليس علينا أن نظل في نطاق الترحيب والتصفيق وصفّ الشعارات وتكرارها، إن الآتي أعظم وأخطر، ونعتقد بلا تردد، أن أدواتنا الحالية تفتقد القدرة على تحمّل المسؤولية الوطنية إزاء استحقاقات ما هو مقبل من أحداث.

كما نرى أن الدعوات لحل السلطة، ما هي إلاّ دليل إفلاس، وانعدام الرؤية والتخبّط وعدم البحث عن خيارات واقعية، وهروب من استحقاقات النضال الوطني، ذلك أن حل السلطة، ليس حلاً، فله استحقاقاته الأكثر خطورة من أي استحقاقات راهنة، وعلى الأقل، فإن مثل هذا الخيار، يجب أن يمنح فرصة للتداول والتقييم والبحث والاستقصاء، وفي انتظار ذلك، فإن الأمر يتطلب التمسك بصلابة الموقف، مع مرونة واضحة في التكتيك السياسي واستثمار الهبّة الشعبية الداعمة للتوجه الفلسطيني لصالح إحداث متغيرات جوهرية على الوضع الفلسطيني الداخلي!