نحو التحول الكبير...

ookal

بحفاوة بالغة وترحيب كبير قابل الشعب الفلسطيني خطاب الرئيس محمود عباس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، الأمر الذي يمكن معه القول، إن هذا الخطاب أعاد بعضاً من الثقة المفقودة بين الشعب وقيادته، وانه عزز روح الانتماء الوطني، ومشاعر التحدي التي غيبها الانقسام والضعف الفلسطيني، والمراهنات الخاسرة.

ربح الرئيس محمود عباس شعبه، وخسر رئيس الحكومة الإسرائيلية شعبه والعالم، فلقد جاءت الخطابات الثلاثة للرئيس عباس ونتنياهو والرئيس الأميركي باراك أوباما بمثابة استفتاء دولي على سياسات ومواقف كل طرف من هذه الأطراف المعنية بملف المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية. في أيار من هذا العام كان نتنياهو قد وقف 'بطلاً'، وزعيماً مفوّهاً أمام مجلسي النواب والشيوخ الأميركيين، حيث لم تهدأ موجات التصفيق لخطاب كان ينطوي على قدر من التحدي لرئيس الولايات المتحدة الذي أعلن في خطاب سابق لخطاب نتنياهو ضرورة العودة للمفاوضات على أساس حدود الرابع من حزيران 1967.

لم يصمد أوباما في تلك المرة، كما لم يصمد في مرات سابقة، وسرعان ما أن تراجع لحساب الموقف الإسرائيلي الذي يجر الولايات المتحدة نحو المزيد من الفشل السياسي على المستوى الدولي، وفي منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص.

في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، الذي قوبل ببرود واضح من الوفود، لم يخرج أوباما عن النص الإسرائيلي، وكأنه جاء بالمقدمة لما جاء لاحقاً على لسان رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي وصفت الصحافة الإسرائيلية خطابه بالممل وغير الموفق، بل والفاشل.

وفيما أعلن أوباما بوضوح ليس بعده وضوح رفض الولايات المتحدة أية محاولة للفلسطينيين، لطرح أي من ملفاتهم أمام الأمم المتحدة، وكرر عزم بلاده على استخدام 'الفيتو' إن لزم الأمر، لإفشال المسعى الفلسطيني بطلب العضوية الكاملة لدولة فلسطين على حدود الرابع من حزيران 1967، كان نتنياهو بدوره يغلق كل الأبواب والنوافذ أمام إمكانية استئناف المفاوضات.

ما ورد في خطاب نتنياهو، وتضمن الرؤية الإسرائيلية للسلام والمفاوضات يؤكد ما ذهب الرئيس عباس وقبله وبعده الكثيرون إليه من أن طريق المفاوضات مغلق تماماً، وان كل المحاولات والجهود الرامية لاستئناف المفاوضات قد فشلت تماماً، الأمر الذي أدى بالفلسطينيين إلى التوجه إلى الأمم المتحدة، لخوض معركة انتزاع حقوقهم، على أساس قراراتها ومرجعياتها.

نتنياهو أراد الأمن قبل الدولة الفلسطينية والسلام، وأراد أن توجد قواته العسكرية لأغراض أمنية دفاعية استراتيجية في أجزاء من الضفة الغربية ويقصد أساساً غور الأردن الذي يشكل ثلث مساحة الضفة الغربية. وأراد نتنياهو، أيضاً، اعتراف الفلسطينيين بيهودية الدولة، وبالتخلي عن تطلعاتهم تجاه القدس التي ينبغي أن تكون عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل، وأراد، أيضاً، الاحتفاظ بالكتل الاستيطانية المزروعة في الضفة الغربية، وأن يصادر الأراضي المقامة عليها والتي يصادرها جدار الفصل العنصري، أيضاً. وفق كل هذا أراد نتنياهو أن يتخلى الفلسطينيون عن حقهم في العودة إلى ديارهم وأراضيهم التي شردتهم منها الحركة الصهيونية وكتائبها الإرهابية بالتعاون مع دولة الانتداب البريطاني قبل العام 1948.

لم يبق كل من أوباما، ونتنياهو للفلسطينيين شيئاً أو ما يمكن لهم أن يفعلوه سوى الانصياع لإرادة إسرائيل ورؤيتها لسلامها ومصالحها وأن يقبلوا بما تمليه عليهم، دون أن يحصلوا على شيء.

الخطابات في الأمم المتحدة كشفت كل الأوراق ووضعتها أمام طاولة المجتمع الدولي، الذي عليه أن يتحمل مسؤولياته التاريخية، ووضعت حداً قاطعاً لكل من يراهن على سياسة مختلفة أو متوازنة للولايات المتحدة، أو من لديه بقايا وهم بشأن إمكانية استئناف المفاوضات.

'الرباعية الدولية'، التي اجتمعت قبل الخطابات وفشلت في اتخاذ موقف مقبول عادت واجتمعت بعد الخطابات، لتضمن بيانها، كلاماً لا يصح اعتباره مبادرة، ولا حتى مناورة، فلقد كان ما طرحته 'الرباعية'، إعلان فشل آخر، بل إعلان وفاة فما ورد لا يتجاوز حدود مناشدة الطرفين العودة للمفاوضات.

أما الرزنامة الزمنية التي وضعتها 'الرباعية' في بيانها فإنها لا تستحق النظر إليها، فهي ليست المرة الأولى التي يتلقى فيها الفلسطينيون وعوداً سرعان ما أن تذروها رياح التواطؤ الدولي مع إسرائيل.

لقد مضت المفاوضات إلى طريقها المحتوم، لا لأنها مرفوضة من حيث المبدأ وإنما لأنها شكلت غطاءً للسياسات الإسرائيلية التي لا تعترف بالآخر إلاّ عبداً، ولا تعرف سوى سبيل الإخضاع، ومصادرة حقوق الآخرين. اليوم يستطيع الرئيس عباس والقيادة الفلسطينية أن يقول للعالم أجمع إن الفلسطينيين صبروا طويلاً، وقدموا كثيراً من أجل السلام، ودفعوا أثماناً باهظة بسبب السياسات والأطماع الإسرائيلية، لكن إسرائيل قابلت كل ذلك، بالنكران والاصرار على احتلالها وعدوانها وادعاءاتها التوراتية الملفّقة. نعلم أن القيادة الفلسطينية تعرضت ولا تزال تتعرض لضغوط هائلة، ولكن قراءة موضوعية للتحولات الإقليمية والدولية، ستصل إلى استنتاج واضح، وهو ما ذكرته تسيفي ليفني في تصريح لها قبل بضعة ايام، وأكدت فيه أن إسرائيل تمر في أسوأ أوقاتها منذ قامت العام 1948. إنه 'ربيع الثورات العربية'، و'ربيع القضية الفلسطينية'، حيث لم تعد الحقوق الفلسطينية والعربية مستباحة للعدوان الإسرائيلي، وحيث لم يعد بإمكان أي حاكم عربي أو نظام، مواصلة الصمت على الانحياز الأميركي الكامل والأعمى لإسرائيل، ذلك الانحياز الذي أدى إلى الإطاحة بصدقية الولايات المتحدة، وسيؤدي إلى تقليص مساحة مصالحها ودورها في المنطقة. بقي أن يكلل الرئيس عباس هذا النجاح للقضية الفلسطينية، باستعادة الوحدة، ولم الشمل، ونحو إعادة تأهيل الوضع الفلسطيني لمقابلة التحديات الكبيرة والخطيرة الراهنة والمنتظرة.

طلال عوكل