ملاحظات على هامش خطاب 'أبو مازن'

masri

بدا الرئيس محمود عباس في خطابه التاريخي أمام الأمم المتحدة شخصاً جديداً. فما الذي أدى إلى هذا التغيير؟ . وحتى نجيب عن هذا السؤال، لا بد من العودة إلى الوراء.

آمن أبو مازن بُعيد مشاركته في انطلاقة الثورة الفلسطينية بإمكانية تغيير إسرائيل من الداخل بما يكفل تحقيق السلام، وذهب في هذا الخيار إلى أبعد نقطة، إلى درجة القول عندما تجاوزت إسرائيل تطبيق التزاماتها في المرحلة الانتقالية بالقفز عن ذلك، إن ما لا نأخذه بالمُفرّق في هذه المرحلة سنأخذه بالجملة في الاتفاق النهائي، وجازف بتطبيق الالتزامات الفلسطينية من جانب واحد، بما في ذلك التنسيق الأمني، والدخول في اختبار إثبات الجدارة وبناء المؤسسات تحت الاحتلال كطريق لإنهائه.

فمنذ استلامه سدة الرئاسة واصل أبو مازن ترديد أن المفاوضات هي التي يمكن أن تؤدي إلى قيام الدولة، وآمن بأن الدولة الفلسطينية قريبة، وفي متناول اليد. وكان يقول كلما تعثرت المفاوضات أو واجهت مأزقاً: 'البديل عن المفاوضات هو المزيد من المفاوضات'. ولا يزال يردد حتى الآن إن المفاوضات هي الخيار الأول والثاني والثالث.

وعندما أنهت الحكومة الإسرائيلية مسرحية التجميد الجزئي والمؤقت للاستيطان عام 2010، وافق على تمديد التجميد ثلاثة أشهر، لدرجة استعداده لاستئناف المفاوضات في كل يوم يتم فيه تجميد الاستيطان، وعقد هو ووفده لقاءات لا تحصى مع أولمرت ووفده، وعندما حصل بعض التقدم اعتقد أن باب الأمل فتح، لكنّ أولمرت سقط تحت وطأة الفضائح التي لاحقته من كل جانب، وجاء نتنياهو ورفض بدء المفاوضات من حيث انتهت، ووضع شروطاً إسرائيلية جديدة، تبدأ بالاعتراف بإسرائيل دولة يهودية، ولا تنتهي باعتبار الأمن هو المدخل والضامن لتفصيل قيام الدولة الفلسطينية على مقاس الشروط والمصالح والأهداف الإسرائيلية.

ولو وقف الأمر عند حدود عدم تقدم المفاوضات لهان الأمر على سوئه، وإنما كانت السنوات الطويلة الماضية فرصة ذهبية لإسرائيل وظّفتها لتعميق الاحتلال وتوسيع الاستيطان، ولاستكمال تهويد وعزل القدس. وإت أقصى ما يمكن أن تقدمه إسرائيل هو 'الانسحاب' من جزء من الأراضي الآهلة بالسكان في الضفة الغربية، بعد ضم أجزاء كبيرة منها، وذلك ضمن ترتيبات أمنية طويلة الأمد تضمن ديمومة سيطرة إسرائيل، وتحويل الكيان الفلسطيني إلى محمية إسرائيلية حتى لو أخذ اسم الدولة الفلسطينية.

وعندما أعلن أبو مازن عزمه على التوجه إلى الأمم المتحدة، في ظل معارضة أميركية شديدة - حتى بعض أنصاره ومؤيديه لم يصدقوا بأنه سيمضي إلى النهاية- حَسَمَ الأمر بإلقاء الخطاب، الذي رفع فيه سقف الموقف الفلسطيني، ما أدى إلى زخم شعبي، تجلّى أثناء خطابه واستقباله، حوّله إلى زعيم شعبي كما لم يكن من قبل.

جاء الخطاب مستمداً قوته من عدالة القضية، ومن تصميم الشعب الفلسطيني على البقاء على أرضه وعلى تحقيق أهدافه، ومن تحليق روح الربيع العربي في المنطقة؛ ما أمد الرئيس بالقوة لمواصلة عزمه على تقديم طلب العضوية الكاملة لدولة فلسطين إلى مجلس الأمن، على الرغم من الضغوط والتهديدات الأميركية والإسرائيلية، والنصائح التي قدمت من أطراف فلسطينية وعربية ودولية شقيقة وصديقة بالعدول عن ذلك.

فما الذي جعله يتمسك بشروطه لاستئناف المفاوضات؟

هناك جملة من العوامل والأسباب التي غيّرت الرئيس، وجعلته يرفض الرضوخ لاستئناف المفاوضات إذا لم يتم وقف الاستيطان وموافقة الحكومة الإسرائيلية على حدود 1967، لأنه أدرك أن العودة إلى المفاوضات وفقاً للقواعد القديمة لا تعد مجرد تكرار للخطأ، بل جريمة لا تغتفر، لذلك مضى في طريقه وغامر بخسارة الرئيس الأميركي، وبتحمل عواقب هذا الموقف التي تشمل اعتباره 'لم يعد شريكاً للسلام' وملاحقته هو وأبنائه وفق نصائح 'أليوت أبرامز'، ويمكن أن تصل إلى مواجهة شاملة مع الاحتلال.

إن ما يفسر التغيير الملموس في سياسة أبو مازن هو وصول المفاوضات إلى طريق مسدود بسبب صخرة تعنت حكومة نتنياهو، واقتناعه بأن هذا الطريق غير قابل للاختراق على المدى المنظور على الأقل. فمعظم المؤشرات والاستطلاعات في إسرائيل تشير إلى أن الحكومة الإسرائيلية الحالية ستبقى إلى آخر فترتها، وأن إجراء انتخابات مبكرة أو في موعدها، سيحمل على الأغلب حكومة متطرفة مثل الحالية، ويمكن أن تكون أكثر تطرفاً.

وما يزيد الطين بلة، أن الإدارة الأميركية تراجعت عن مطالبتها بوقف الاستيطان، وعن وعودها بالانتقال إلى حل الصراع بدلاً من إدارته، وإقامة الدولة الفلسطينية في أيلول الجاري، لدرجة أن باراك أوباما في خطابه في الأمم المتحدة كان أكثر انحيازاً لإسرائيل من أي فترة سابقة، وبدا صهيونياً بامتياز، وسط تقديرات بأنه سينحاز أكثر مع تزايد حمى التنافس الانتخابي للانتخابات الرئاسية في أواخر العام المقبل، التي يتنافس فيها المرشحون على أيهم أكثر دعماً لإسرائيل، ما يجعل من غير المتوقع أن تمارس الإدارة الأميركية أي ضغط جدي على حكومة إسرائيل، على الأقل من هنا وحتى بعيد الانتخابات، حتى إذا افترضنا نجاحه فيها، وإذا نجح ما الضمان أنه سيتبع سياسة مغايرة.

لقد استنتج أبو مازن أن العامين القادمين على الأقل لن يشهدا تقدماً في عملية السلام، وهي فترة كافية لتواصل الحكومة الإسرائيلية تطبيق مخططاتها الرامية إلى خلق أمر واقع احتلالي، يقضي على ما تبقى من حلم الفلسطينيين بإقامة الدولة، وسيقوض السلطة ويمكن أن يؤدي إلى انهيارها. وفعل أبو مازن كل ما فعله من أجل إقامة الدولة، وإذا أصبح هذا الهدف بعيد المنال، فلماذا يواصل هذا الطريق؟

إن هذه العوامل وضعت أبو مازن أمام خيارات عدة: إما الاستمرار في الانتظار حتى تتغير الحكومة الإسرائيلية، ويمارس الرئيس الأميركي الضغوط عليها، وهذا مثل انتظار غودو الذي لن يأتي؛ أو استئناف المفاوضات دون شروط، وتجاوز الخطوط الحمر عبر تكريس تحول السلطة من إجراء مؤقت إلى مقاول دائم يحرس الاحتلال؛ أو إغلاق طريق المفاوضات الثنائية والرعاية الأميركية الانفرادية، والبحث عن قواعد جديدة للمفاوضات تستند أساساً على مبادرة التوجه إلى الأمم المتحدة؛ أو شق مسار سياسي جديد يعتمد على الصمود والوحدة والمقاومة، واستعادة البعد العربي والدولي للقضية الفلسطينية.

لا يمكن تفسير تغيير سياسة 'أبو مازن' بهذا الشكل الذي حدث وعدم الاكتفاء بتقديم الطلب إلى الجمعية العامة، دون رؤية نهاية عمله السياسي، وتفكيره الجدي بالانسحاب من الحياة السياسية، الذي سيأخذ شكل عدم الترشح لولاية ثانية أو حتى الاستقالة إذا تعذر إجراء الانتخابات، فأبو مازن لا يريد للتاريخ أن يسجل بأنّ عهده انتهى دون أن يحقق الاستقلال الوطني كما وعد، بل تعمق الاحتلال، وتوسع الاستيطان، ووقع الانقسام؛ لذلك فضل أن ينهي حياته السياسية شريفاً شريفاً مثلما أنهاها سلفه ياسر عرفات شهيداً شهيداً. وبدون تغيير سياسته كان سيتحمل مسؤولية ما حدث في عهده وما يمكن أن يحدث بعده من كوارث.

الآن، حدد ورفع أبو مازن سقف الموقف الفلسطيني، بحيث سيسجل التاريخ موقفه بأحرف من نار ونور، وحتى يكمل ما بدأه لا بد من إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، والتوجه إلى الانتخابات بأسرع وقت ممكن، حتى يرد الأمانة إلى الشعب، بعد أن وضع أقدامه على طريق الاستقلال، بالحصول على عضوية كاملة أو مراقبة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة.

لا يمكن اكتمال تفسير التغير في موقف 'أبو مازن' بمعزل عن تأثير الربيع العربي الذي مثل العامل الأكثر أهمية في تغير موقفه، فقد أزاحت الثورة المصرية ثقل نظام حسني مبارك عن صدره، وأصبحت مصر له لا عليه، الأمر الذي فتح آفاقاً إيجابية تسمح للفلسطينيين بالتفكير في خيارات وبدائل جديدة. ففي الوقت الذي تؤكد فيه الشعوب العربية سعيها إلى الديمقراطية، وفي ظل المتغيرات الإقليمية والدولية، خصوصاً على صعيد تراجع مكانة وتأثير الولايات المتحدة، وتدهور العلاقات الإسرائيلية مع مصر وتركيا، فقد دقت 'ساعة الربيع الفلسطيني، ساعة الاستقلال'.

ما دام الحل ليس على الأبواب، والدولة ليست على مرمى حجر، فلا بد من السعي الجاد لامتلاك زمام المبادرة، في محاولة أخيرة لتحريك الجمود القاتل في عملية السلام من خلال تغيير قواعد المفاوضات، الأمر الذي يحتاج إلى وقت، وكذلك، لم يعد بالإمكان معالجة انسداد أفق محادثات السلام بنفس الوسائل التي جربت وثبت فشلها خلال السنوات الماضية.

لا يمكن إقامة الدولة الفلسطينية، حتى لو وافقت الحكومة الإسرائيلية على مرجعية للمفاوضات، دون تغيير موازين القوى المختلة لصالح إسرائيل، وهذا بحاجة إلى كفاح طويل فلسطيني وعربي حتى يصبح الاحتلال مكلفاً لإسرائيل، وهذا يتطلب تغيير المسار دون أن يعني ذلك الانقلاب على كل شيء والعودة إلى نقطة الصفر، ولكن ينطلق من إغلاق طريق العودة إلى المفاوضات الثنائية العقيمة مهما كانت الضغوط والتهديدات والأثمان.