مغزى التصاريح الإسرائيليّة

في الوقت الذي تزداد فيه الحكومة الإسرائيليّة تطرفاً وتعنتاً إلى حد إفشال كل الجهود والمبادرات الرامية إلى استئناف المفاوضات وإحياء ما يسمى "عمليّة السلام"، وشن حملة متواصلة من وزير الخارجيّة الإسرائيلي ليبرمان ضد الرئيس أبو مازن مطالباً باستبداله، لأنه يشن حملة دبلوماسية وقانونيّة ضد إسرائيل، ويهدف إلى التوجه إلى الأمم المتحدة فيما يعتبر إرهاباً ضد إسرائيل. وفي الوقت الذي تسابق فيه إسرائيل الزمن وتكثف من تطبيق مخططاتها العدوانيّة والتوسعيّة والاستيطانيّة والعنصريّة، والتي بلغت مستوى غير مسبوق بإطلاق يد المستوطنين لنشر الخراب والتدمير والاعتداءات المتواصلة والمتصاعدة ضد المواطنين الفلسطينيين وممتلكاتهم ومزروعاتهم. في هذا الوقت بالذات؛ أصدرت سلطات الاحتلال تصاريح زيارة مدتها شهر طوال شهر رمضان المبارك وعيد الفطر، وتفاوتت التقديرات في عددها ما بين 130 ألف إلى 200 ألف، وترافقت مع صرف نظر الاحتلال عن عاصفة من الدخول البشري الفلسطيني لإسرائيل بتصاريح أو من دونها، بحيث وصل عدد الزائرين إلى نصف مليون على الأقل. قبل الوقوف أمام أسباب هذه الخطوة، لا بد من التأكيد على الحق الفلسطيني الطبيعي والقانوني في التنقل بحريّة داخل أرضه من أجل السياحة والعمل والتجارة، وزيارة أهله ومدنه وقراه، والمقدسات الدينيّة والمعالم التاريخيّة، وإقامة الصلات بين مختلف أجزاء الشعب الفلسطيني، وأن منع هذا الحق انتهاك صارخ تقوم به سلطات الاحتلال، يضاف إلى مئات الانتهاكات التي من ضمنها عدم تمكين أهالي الضفة، بما فيها القدس، وقطاع غزة من التواصل على الرغم من الاتفاقات سيئة الصيت المبرمة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي التي تنص على ذلك.

ما مغزى هذه الخطوة الإسرائيليّة غير المسبوقة بهذا الحجم منذ قيام السلطة وحتى الآن، وما الذي يقف وراءها؟ هل يمكن القول إن ما أدى إلى إصدار هذه التصاريح هو سبب سياسي أم أمني أم اقتصادي على طريقة إما، أو أن هناك عدة أسباب مترابطة وراء هذه الخطوة، وهي: أول هذه الأسباب هو أمني، لأن الهدوء والاستقرار الذي تحقق خلال السنوات الأخيرة لم يسبق له مثيل منذ وقوع الاحتلال الإسرائيلي عام 1967 وحتى الآن، ويعزز هذا الهدوء التنسيق الأمني المستمر ما بين الاحتلال والسلطة الفلسطينيّة الذي لم يتأثر على الرغم من وقف المفاوضات وتدهور العلاقات بين الجانيين، والتهدئة ما بين الاحتلال وسلطة الأمر الواقع في غزة. ثاني الأسباب هو اقتصادي، كون هذه الخطوة تتم في ظل متاعب اقتصاديّة إسرائيليّة ظهرت في رفع الضرائب، والغلاء، والاحتجاجات الاقتصاديّة الاجتماعيّة، وتراجع معدلات النمو، خصوصاً في ظل تأثيرات دق طبول الحرب مع إيران.

ويجب عدم التقليل من العامل الاقتصادي بحجة أن الاقتصاد الإسرائيلي أقوى بعشرات المرات من الاقتصاد الفلسطيني، فهناك تقديرات تفيد بأن السوق الإسرائيليّة امتصت مليار شيكل من الأموال الفلسطينيّة طوال شهر رمضان وعيد الفطر. إن إعلانات الشكر التي نشرها محل "ماميلا" للإدارة المدنيّة لإصدارها هذه التصاريح، وقيام "كانيون المالحة" الشهير بسد نفقات استئجار المخازن المتخلف عن سدادها طوال العامين السابقين ودفع سنة مقدماً، وما شهدته شواطئ يافا وتل أبيب وغيرهما من المدن والأسواق الإسرائيليّة من غزو جماعي فلسطيني وزيارات متكررة طوال الفترة المذكورة؛ لا يجعل من السهولة بمكان التقليل من تأثير العامل الاقتصادي. السبب الثالث والأكثر تعقيداً لتفسير الخطوة الإسرائيليّة هو السبب السياسي، ويمكن القول في هذا الصدد: إن إسرائيل حريصة على أن تظهر أمام العالم أنها تسمح بحريّة التنقل وزيارة الأماكن الدينيّة ومختلف مدن إسرائيل، لأن هذا يحسن من صورتها وسط وجود معالم ضيق في العالم من سياساتها، وتريد أن تنفس حالة الاحتقان والإحباط لدى المواطن الفلسطيني خشية من اندلاع انتفاضة ضد الاحتلال، في ظل تهميش القضية الفلسطينية؛ بسبب الانشغال العربي والدولي بالمتغيرات العربية والإقليمية، وأزمة اليورو، وانتخابات الرئاسة الأميركية، واحتمال الحرب على إيران، وبعد فشل حل الدولتين بعد أن بلغ عدد المستوطنين في الأراضي المحتلة عام 1967 أكثر من 650 ألف مستوطن، والإعلان عن مشاريع لبناء عشرات الآلاف من الوحدات الاستيطانية، وبعد فقدان الأفق السياسي، وتردي الوضع الاقتصادي، وزيادة الضغوط، والاعتداءات الإسرائيلية.

إسرائيل تريد من إصدار التصاريح إعادة الصلات المباشرة بين المواطن وسلطات الاحتلال، في ظل عودة أحلام اليمين بإحياء إسرائيل الكاملة، الذي بدا أن أوساطاً مهمة فيه قد تخلت عنها خشيّة من قيام دولة واحدة، وبعد تصاعد المقاومة المسلحة، ما اقتضى اعتماد الفصل والجدران بين الفلسطينيين وإسرائيل، خصوصاً في ظل تهديد السلطة بحل نفسها أو خطر انهيارها. هنا يجب الحذر من المبالغة في هذا الأمر، فإسرائيل تضغط على السلطة في جانب وتساعدها في جانب آخر، بدليل أنها قدمت موعد دفع العوائد الفلسطينيّة الشهر الماضي، وعقد اتفاق فلسطيني إسرائيلي يهدف إلى تحسين زيادة هذه العوائد، وأصدرت لـ 10 آلاف عامل جديد تصاريح للعمل فيها، يضافون إلى 100 ألف عامل يعملون فيها وفي المستوطنات، ويضاف إليهم 15 ألف تاجر ورجل أعمال يحملون تصاريح دخول إلى إسرائيل، و30 ألف مواطن من غزة يدخلون إسرائيل سنوياً للعلاج والتجارة وأمور أخرى. وتصاريح العمل هذه تعزز الاقتصاد الفلسطيني من جهة وتربطه بالاقتصاد الإسرائيلي من جهة أخرى.

فالهدف ليس التخلص من السلطة التي تشكل مصلحة إسرائيليّة وتجعل الاحتلال خمس نجوم، بل إعادة صياغة إسرائيلية مستمرة للسلطة، لكي تكون دائماً سلطة حكم ذاتي محدود ووكيلاً أمنيّاً للاحتلال، وتكف عن العمل من أجل السيادة والاستقلال وإقامة دولة فلسطينيّة على حدود 1967، فمثلاً استعادت سلطات الاحتلال جزءاً مهماً من صلاحيات السلطة بعد إعادة احتلال الأراضي الخاضعة كليّاً لسيطرة السلطة، ونقلتها إلى الإدارة المدنية التابعة للاحتلال؛ استعداداً لكافة الاحتمالات، خصوصاً إذا قررت السلطة مساراً جديداً يتضمن إعادة النظر بشكلها ووظائفها والتزاماتها. تأسيساً على ما سبق، السلطة حائرة في تفسير الخطوة والسياسات الإسرائيليّة في الوقت الحاضر، فهناك سياسات وإجراءات ضد السلطة وأخرى لدعمها (ثواب وعقاب)، فهي التي قدمت 90% من طلبات الحصول على التصاريح، فيما قدم 10% من الطلبات مباشرة إلى الإدارة المدنيّة الإسرائيليّة، وأعربت عن تباين في تفسير الخطوة، بين من قلل من مغزاها الاقتصادي وبالغ في أبعادها السياسية والأمنية.

وظفت الحكومة الإسرائيلية التصاريح لترسيخ فكرة السلام الاقتصادي، وتقديم الخيارات الإسرائيلية التي طرحتها بديلاً عن الحل السياسي وإزالة الاحتلال وإقامة الدولة. إسرائيل أعطت الفلسطيني الشاب الذي لم يغادر الضفة طوال حياته فرصة للمقارنة بين السلطة وإسرائيل، ومستوى المعيشة، والحياة، وجودة السلع، والخدمات. لو كان الوضع الفلسطيني سليماً كان يمكن توظيف التصاريح لتعزيز الصلات مع شعبنا في الداخل، وتعزيز صمود القدس، وتطوير التعاون في كافة المجالات بين قطاعات شعبنا المختلفة. كما يمكن تعزيز الثقافة الوطنيّة من خلال توسيع استخدام سلاح المقاطعة الإسرائيليّة والسياسيّة والاقتصاديّة والأكاديميّة بشكل عملي وليس رمزيا كما حصل حتى الآن. يمكن أن يزور المواطن الفلسطيني إسرائيل ويحمل طعامه وشرابه معه، مثلما يعمل السائح الإسرائيلي حينما يزور الأردن، كما قرأنا مراراً وتكراراً في وسائل الإعلام الأردنيّة. أو يمكن أن يتعامل مع المؤسسات والشركات والأسواق العربيّة، خصوصاً في القدس المحتلة ويقاطع الإسرائيلية. ويمكن مراقبة الأسعار في الأراضي الفلسطينيّة ومحاسبة المتلاعبين بها، والاهتمام بجودة السلع والخدمات، فإذا أردت أن تقاطع البضائع الإسرائيليّة بفعاليّة فعليك أن تحسن من جودة السلع الفلسطينيّة وتقلل من أثمانها. وبالمناسبة، أين الحملة لمقاطعة الاستثمار في إسرائيل والمستوطنات، وأين الحملة التي نظمتها السلطة لمقاطعة الاستيطان عملاً وتعاملاً وتجارةً؟ فعلى ما يبدو أنها سحبت من التداول دون إعلان. فبضائع المستوطنات لا تزال تغزو الأسواق الفلسطينيّة، وعدد العمال والاستثمار فيها بازدياد!!.