صدِّق من قال "خذوا العبرة من أفواه المجانين"

منذ توليه منصب وزير الخارجية في حكومة بنيامين نتنياهو، كان رئيس حزب إسرائيل بيتنا، أفيغدور ليبرمان، الناطق الحقيقي الذي يعبر عن خفايا وخواطر السياسات الإسرائيلية. ومنذ البداية، بدا وكأن ليبرمان، إنسان متطرف، مأفون، لا يعبر إلا عن مواقفه الشخصية ومواقف وسياسات حزبه، ولكنه في الواقع كان يعبر بصدق، عما لا يستطيع نتنياهو التعبير عنه علانية، وقد جاءت المعطيات على الأرض لتؤكد أن من يرغب في التعرف على حقائق السياسات الإسرائيلية فإن عليه أن يتابع ما يصدر عن وزير الخارجية. الناس عموماً تعودت أن تأخذ الحقائق من الأطفال، بسبب ما يتمتعون به من براءة وصدقية لم تلوثها سنوات العمر، أو من المجانين الذين لا يفكرون كثيراً في التداعيات والحسابات، ولا يملكون القدرة على التضليل والكذب، أو اللف والدوران، وهذا هو حال شخصية مثل أفيغدور ليبرمان، الذي قفز كما يقال من "قعر القفة إلى أذنيها" مرة واحدة، من شخصية الأزعر بالفلسطيني والعظريان بالعبري، إلى زعيم حزب سياسي ورئيس كتلة كبيرة في الكنيست، وشريك أساسي في الائتلاف الحكومي، لا تستطيع الحكومة بدون وجود كتلته فيها، أن تنعم بالاستقرار والاستمرار. منذ بداية تسلمه حقيبة الخارجية سخر ليبرمان من شعار الأرض مقابل السلام، وسخر من فكرة الدولة الفلسطينية، وعبر عن قناعته بأن السلام مع الفلسطينيين غير ممكن تحقيقه، ولم يراع آداب التخاطب وأصول العمل الدبلوماسي والسياسي حين كان يعلق على مواقف الدول وزعماء عرب ودوليين، لا تعجبه آراؤهم ومواقفهم. اليوم يخرج علينا هذا المأفون، والذي يعبر عن مواقف وسياسات حكومة نتنياهو حتى لو حاول الأخير التملص منها، ويعبر أيضاً عن الميل المتزايد في المجتمع الإسرائيلي نحو التطرف، فيتهم الرئيس محمود عباس بالإرهاب الدبلوماسي، ويطالب الرباعية الدولية باتخاذ قرار لإجراء انتخابات عامة فلسطينية حتى يمكن التخلص من الرئيس الفلسطيني.

مجنون يتحدث وعاقل يستمع، ليبرمان المتطرف الذي يسرق الأرض، ويرعى الاستيطان ويدق طبول الحرب، ويحتقر العنصر الفلسطيني والعربي، ويرفض السلام، وفكرة تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وليبرمان هذا الذي إن امتدحته تقول عنه إنه إرهابي، لأنه إرهابي وعنصري، وجاهل بل ومجنون يتهم الرئيس الفلسطيني بالإرهاب، وماذا بالإرهاب الدبلوماسي. الشعب الفلسطيني وكل من يقف إلى جانبه وحتى أعداءه بما في ذلك الكثير من الإسرائيليين يصابون بالسأم والملل، لشدة مرونة الرئيس محمود عباس، وتمسكه الحازم والحاسم بالمفاوضات وخيار السلام، ويتفرد ليبرمان بوصفه بالإرهاب. نسمع جميعاً بتعريفات "شروي غروي" للإرهاب، لكن لم نسمع حتى الآن تعريفاً يتحدث عن الإرهاب الدبلوماسي. نتوقع حسب تعريف ليبرمان للإرهاب الدبلوماسي أن الرئيس محمود عباس، ومنظمة التحرير والسلطة، وربما كل من يؤيد من الفلسطينيين خطوة الذهاب إلى الأمم المتحدة، نتوقع من هؤلاء جميعاً أن يصدروا لدول العالم المئة وواحد وتسعين الأعضاء في المنظمة الأممية، أن يصدروا تهديداً بطرد من لا يصوت إلى جانب الطلب الفلسطيني، أو مثلاً أن يصدر قرار فلسطيني بإغلاق سفارات تلك البلدان في العالمين العربي والإسلامي على الأقل. من يلتزم بالقانون الدولي، وبأصول العمل السياسي والدبلوماسي ولحرية الرأي ومبادئ الديمقراطية العالمية القائمة في الأمم المتحدة، يوصف على أنه إرهابي، أما من تدينه محكمة لاهاي بسبب الجدار العنصري، ومن سرق أرض الآخرين، ويرتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية حسب تقرير غولدستون، ومن يضرب عرض الحائط بالقرارات والمواثيق الدولية، فهو منشأ السلام والتسامح والإخاء بين الشعوب. صدق من قال "إن لم تستح فقل أو افعل ما تشاء"، إنه زمن القوة الطاغية التي لا تهزمها إلا القوة، زمن السيطرة الأميركية، الراعية الأساسية والحامية دائماً ليبرمان وأمثاله، ومن يمثل. يستشيط ليبرمان غضباً، هو وحكومته لأن الفلسطينيين يريدون الذهاب إلى الأمم المتحدة، لا لكي يطردوا إسرائيل منها، وهي في الحقيقة تستحق ذلك، وتستحق ذلك منذ زمن بعيد، وإنما لكي يحصلوا على مكانة دولة عضو غير كاملة العضوية، فإذا كان الإسرائيليون يوافقون حقيقةً على السلام، وعلى أن ينتهي هذا السلام بإقامة دولة فلسطينية، فلماذا إذاً يرفضون أن تحصل فلسطين على صفة ومكانة العضو الكامل وليس استبدال مقعد منظمة التحرير كعضو مراقب، بمقعد دولة غير عضو لفلسطين؟

لن نقول: إن ليبرمان ما كان له أن يتفوه بمثل هذه التصريحات، ويمعن في تكرارها، لولا أنه ينعم بالحماية الأميركية، فهو كان سيفعل ذلك في كل الأحوال، لأنه يعبر عن حقيقة الكيان الذي يحظى فيه بمكانة وزير الخارجية، وأحد صناع القرار، ويحظى بشعبية منحته مكانة الكتلة الثالثة في الكنيست، لكن أيضاً الولايات المتحدة، مساهم رئيسي في رعاية مثل هذه المواقف والسياسات لأنها هي الأخرى ترفض المسعى الفلسطيني وعليها تعول إسرائيل في إفشال أو تأخير هذا المسعى. على أن على الرئيس عباس، وعلى القيادة الفلسطينية، وعلى كل الفلسطينيين الموالين والمعارضين أن يتنبهوا إلى مدى أهمية القرار الذي اتخذته منظمة التحرير بكل هيئاتها، وحركة فتح بكل هيئاتها والسلطة بكل هيئاتها، وعلى رأسها جميعاً الرئيس عباس، ذلك أن الحديث يدور عن توجه وخيار، خطير بالنسبة لإسرائيل، وينطوي على أهمية تفوق مئات الصواريخ والأعمال العسكرية، ولا نظن أن القرار فقط استفز ليبرمان، وإنما يشكل استفزازاً قوياً لصناع القرار في إسرائيل. من هذا المنظور، وفي مواجهة التمرد الإسرائيلي ضد السلام، والسياسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين وحقوقهم، وحتى ضد وجودهم كشعب وبشر، ينبغي أولاً، أن لا تتردد القيادة الفلسطينية إزاء ضرورة المضي قدماً بل والاستعجال في اتخاذ الإجراءات العملية والخطوات القانونية، لتنفيذ قرارها مهما كانت النتائج وعظمت الضغوطات.

وثانياً لابد أن يكون مثل هذا التوجه جزءا من استراتيجية فلسطينية مبادرة، تعيد تفعيل كل أدوات الحق والنضال الفلسطيني، بما يضمن من بين قضايا كثيرة، نقل كل الملفات الفلسطينية إلى الأمم المتحدة، وثالثاً استكمال ذلك بتوحيد الصف الفلسطيني، وتفعيل كل أشكال المقاومة الشعبية، وأشكال التضامن الشعبي العربي والدولي مع شعب فلسطين وحقوقه. في هذا المقام لا ندري لماذا تتردد القيادة الفلسطينية بعد أن صادقت كل الهيئات القيادية على القرار، وصادقت لجنة متابعة مبادرة السلام العربية عليه، وكذلك منظمة العمل الإسلامي؟ لماذا تعيد القيادة تعليق قرار الموافقة بالاجتماع المقبل للجنة مبادرة السلام العربية الذي سينعقد في السادس من أيلول المقبل؟ عدا عن ذلك، فإن تصريحات ليبرمان تنطوي على تحريض مكشوف ووقح، للقتل، وبما يذكرنا بتصريحات أرئيل شارون بحق الرئيس الراحل ياسر عرفات، وانتهى باغتياله، ويذكرنا أيضاً برسالة سابقة كشف عنها موقع ويكيليكس، يسجل فيها نتنياهو، أن الرئيس محمود عباس شخصية خطيرة، ولابد من التخلص منه. الرئيس عباس شخصية خطيرة فعلاً لأنه لا يبقي للإسرائيليين ذريعة، أو مهرباً، لتبرير سياساتهم المعادية للسلام، ولأنه أقدر من السياسيين الإسرائيليين على مخاطبة الرأي العام العالمي غير المنحاز بشكل أعمى لصالح إسرائيل.

والغريب أن ليبرمان بقدر ما أنه يظهر عدائية للرئيس عباس، يتظاهر بأنه يحرص على الديمقراطية الفلسطينية. في كل الأحوال فإن ليبرمان وسيده نتنياهو لن يستطيعا تكرار السيناريو ذاته الذي اتبعه شارون في التعامل مع الزعيم الراحل عرفات، فالقصة أصبحت مكشوفة حتى لو لم يتمكن الخبراء السويسريون من التوصل إلى نتائج مؤكدة بشأن مسؤولية إسرائيل عن عملية الاغتيال، ذلك أن الأخيرة والولايات المتحدة ستقومان بكل ما يمكن القيام به لمنع الوصول إلى الحقيقة.