مدارات - حول محنة جوليان أسانج

يُستفاد من تغطيات الصحافة الأميركية، لمأزق مؤسس 'ويكيليكس'، الاسترالي جوليان أسانج، الحبيس الآن داخل سفارة الإكوادور في لندن؛ أن هناك عاصفة من الاعتراضات التى بدأتها أوساط النخبة، من نشطاء حقوق الإنسان، والأدباء ورموز صناعة السينما، والإعلاميين والمثقفين. وأسانج هذا، محسوب على فئة الإعلاميين. فهو صحفي ومحرر وناشر، وناشط سياسي كان يحل ضيفاً على برامج الحوار. فضلاً عن ذلك، هو مبرمج حاسوب هاوٍ، كان راغباًً منذ نعومة أظفاره في أن يصبح 'ناشط هاكر'. ولما تحقق له ذلك، باتت المصالح الأمنية في الغرب، تصفه بـ 'إرهابي هاي تك' أو عالي التقنية، بعد أن أصبح مؤسس ومحرر موقع 'ويكيليكس' الإعلامي، بهدف ما وضع ما تيسّر من حقائق السياسة الدولية وخفاياها، بين أيدي كل من يعنيهم الأمر من الناس. التقط بطريقته، ما يزيد قليلاً عن ربع المليون برقية دبلوماسية، أربعون في المئة منها خاصة وحصرية، ونحو نصفها غير مصنّفة، وهي متدرجة السرية. أما 6% منها، وهي نحو 13 ألف برقية، فهي سرية للغاية. بعد هذا الطوفان، سرعان ما جرى الإيعاز لأستراليا بتقديم مذكرة اتهام لأسانج بخرق جميع القوانين التي تنظم قواعد الإفراج عن المعلومات السرية، وتصاعدت الضغوط عليه حتى بلغت حد تحذيره من احتمالات إلغاء جواز سفره.

وعلى الرغم من إقرار الشرطة الاتحادية في استراليا، بأن ليس لديها ضد أسانج ما يستحق الإدانة، إلا أنه خشي من العودة، تحسباً لتحريك الدعوى ومواجهته باتهامات مستجدة! في هذه الاثناء، استخدموا معه الأسلوب نفسه، وهو سلاح المرأة وغوايتها ثم شكواها، الذي اتبعته أوساط استخبارية مع رئيس صندوق النقد الدولي دومينيك ستراوس، اليساري صاحب الشعبية العالية، الذي كان نيكولا ساركوزي يخشى منه، وجرى إسقاطه في لُجة المحاكم، باتهامات التحرش الشائن. بخلاف ذلك، بدأ الأميركيون من خلال مصالح القضاء، تحقيقات عن بُعد، ثم انتهوا الى إصدار مذكرة القاء قبض ضد أسانج، مع إصدار تعليمات لبرامج التواصل الاجتماعي، بتقديم معلومات مفصلة عن موقع 'ويكيليكس'. أما المعلقون السياسيون، فقد استفادوا من مواد أسانج، بل اعتمدوا معلوماتها، وكانت فاتحة التأثير، تتعلق بما نُشر من برقيات أرسلتها السفارة الأميركية الى واشنطن، حول حجم الفساد في نظام بن علي في تونس. ومن المفارقات، أن البرقيات، تضمنت رأياً يجزم بأن التونسيين محقون في ثورتهم وفي خروجهم الى الشارع لإسقاط النظام، ولا يحتاجون الى المزيد من الأسباب لكي يغضبوا ويثوروا. وربما يكون 'ويكيليكس' بهذا الكشف عن المراسلات السرية، هو الذي تسبب في التهذيب العالي الذي أظهرته الإدارة الأميركية حيال الثورات، انطلاقاً من قناعتها بأن الشعوب باتت تعرف أن أميركا لم تكن غائبة عن كل ما جرى ويجري لها، وأنها على علم بحجم فساد واستبداد حلفائها من الحاكمين. وجزمت مجلة السياسة الخارجية (فورين بوليسي) الأميركية، أن 'ويكيليكس' هي سبب وضع الشعب التونسي على شفا الانفجار الذي أسقط النظام بعد أن وفر احتراق بوعزيزي شرارته.

وفي الواقع، كانت التقارير تنم عن مهنية عالية تحلى بها الدبلوماسيون الأميركيون، في مراسلاتهم وفي تسجيل الحقائق على الأرض، وإن كانت سياسات بلادهم تجافي الحقائق مثلما تجافي العدالة! * * * في عدد أمس، نشرت 'نيويورك تايمز' مقالة مشتركة حول موضوع أسانج، لمايكل موور، أحد منتجي ومؤلفي السينما الأميركية، وأوليفر ستون المخرج والمؤلف والمنتج السينمائي. قال كاتبا المقال، إن السينمائيين الأميركيين الملتزمين، يفنون أعمارهم المهنية، لكي يقدموا أعمالاً تجسّد افتراضات ظنيّة، أو تخيلات، تتعلق بالأقبح والأقذر من أفاعيل حكوماتهم. وهؤلاء ممتنّون كثيراً لجوليان أسانج، الذي زودهم، بصور بانورامية واقعية، عن ذمائم السياسة الأميركية، وهم يعتبرون هذه الصور، إنجازات تاريخية لأسانج. وهؤلاء، ومعهم الأميركيون البسطاء، وربما الرأي العام العالمي المتعطش للحقائق؛ ينظرون بكل التقدير، لقرار الإكوادور، منح اللجوء السياسي للرجل، الذي يعيش الآن في سفارة هذا البلد في لندن! ويستعرض الكاتبان السينمائيان، موقف الإكوادور، من وجوهه القانونية والسياسية والأخلاقية، ويفنّدان ردود أفعال الساسة الأميركيين، من كلا الحزبين، الجمهوري والديموقراطي، ضد أسانج، وهي التي بلغت حد الدعوة بلسان السناتورة ديانا فينستين، رئيسة لجنة المخابرات في الكونغرس؛ الى محاكمة أسانج بموجب قانون التجسس. المهم، إن عدداً من أوساط النخبة الأميركية، أشاروا باحترام الى فضل 'ويكيليكس' لصاحبها جوليان اسانج، في كشف حقائق عن ممارسات قتل، كانت الولايات المتحدة ضالعة فيها مباشرة وبالدليل 'البرقي'. ومن بين هذه الممارسات، القتل الجماعي للمدنيين العراقيين، بطائرات الأباتشي. كما أماط أسانج اللثام، عن الوجه البشع للسياسة الأميركية في أفغانستان والعراق. ويشير مولفا السينما، في مقالتهما، الى ما سمياه 'التواطؤ' الأميركي مع 'ديكتاتور' اليمن، في مقايضته لأن يصمت عن ضربات أميركية من الجو، كثيراً ما كانت تقتل أبرياء من بلاده؛ مقابل دعم موقفه بصورة أو أخرى! الإكوادور، بموقفها، كانت تنسجم مع مبادئ الإعلان الدولي لحقوق الإنسان، وهي تعرض على البريطانيين والسويديين، أن يباشروا تحقيقاً مع أسانج، قبل تسليمه الى بلد يمكن ان يسلمه للأميركيين. لكن الطرف الآخر يرفض.

وكان أسانج نفسه، يطلب التحقيق معه في لندن. بل إن الإكوادور، حسب ما كتب السينمائيان في 'نيويورك تايمز' عرضت على السويديين، أن يقوموا باستجواب أسانج ـ براحتهم ـ داخل سفارتها، ورفض السويديون بضغوط أميركية. وفي الأيام الأخيرة، عرض أسانج عليهم أن يسافر ويسلم نفسه لهم مقابل تعهد من قبلهم، بعدم تسليمه الى الأميركيين، ورفض السويديون تقديم تعهد كهذا، وكان ذلك أيضاً بضغوط أميركية. وفي حال سماح بريطانيا لأسانج، بالسفر الى السويد لتسليم نفسه؛ فإن المعاهدات القائمة بين بريطانيا والولايات المتحدة، تمنع الأولى من تسليمه لأميركا. لذا فإن الهدف بات أن يُرحّل الى السويد حيث يكون تسليمه أسهل! الأوساط الأميركية المتعاطفة مع أسانج، تقول إن ما تراه واشنطن جريمة ارتكبها الصحفي الاسترالي، لم تقع على أراضي الولايات المتحدة، لكي تطالب أميركا بتسليمه اليها، كذلك فإن أسانج ليس مواطناً أميركياً لكي تطالب بتسليمه. ويقول المتعاطفون الأميركيون مع الرجل، إن مثل هذا السلوك من حكومتهم، في الإصرار على اضطهاد صحفي، سيجعل الحكومتان الروسية والصينية، تستندان الى المنطق نفسه، لتطالبا بتسليم مراسلين صحفيين في أي مكان من العالم، يخرقون القوانين المعمول بها في البلدين، وإن هذا التوجه الأميركي لجلب أسانج ومحاكمته في الولايات المتحدة، سيُنشئ قلقاً عميقاً في كل مكان، عند المعجبين وعند غير المعجبين بجوليان أسانج.

وقد ناشد مثقفون وإعلاميون أميركيون، شعبي بريطانيا والسويد، مطالبة حكومتيهما الإجابة عن أسئلة أساسية تتعلق بهذه القضية: لماذا ترفضون استجوابه في سفارة الإكوادور في لندن؟ ولما ترفضون التعهد له بعدم تسليمه للولايات المتحدة؟ ولماذا لا تنتهزون الفرصة، لتسجلوا موقفاً فارقاً وتاريخياً، لصالح حرية الصحافة الاستقصائية، وحرية التعبير على مستوى العالم كله؟! وما تزال محنة أسانج قائمة، فيما هو حبيس طوعي لنفسه، في سفارة الإكوادور!